حسين عبد الرازق

نصٌ طويل نفيس جدا للعلّامة محمود شاكر من كتابه التأسيسي(المُتنبّي) يستحقّ القراءة و التأمل و الإفادة
يُشعلُ الحماس و يرفع الهِمّة حقَّا في طلب الحق و الخبرة به و الخبرة بالباطل و الجُرأة في كشفه
و أن يكون الحقُ مطلوبَك مهما كلّفك ..

#يشرحُ فيه قصّته مع الدكتور طه حسين ، حينما علم بأن (طه )قد سرق أفكار مقالِ للمستشرق (مرجليوث) التي يُشكّك فيها في صحة نسبة الشعر الجاهلي
فسرق (طه )أفكار هذا المستشرق مع تعديلات لا قيمة لها ،و نسبها إلى نفسه و حَاضر بها عدة محاضرات ، و الشيخ محمود شاكر كان يحضُرها
فيحكي الشيخ محمود شاكر : كيف أنه كان يعلم هذا السّطو و هذا الادّاء و يستنكره
بل يعلم كذب هذه الدعوى من ذاك المُستشرق الجاهل
لكنّه كان يمنعه الحياءُ و ما ل(طه حسين )عليه من فضل سابق و كِبر سنّ من أن يُناقشه في المحاضرات و يَرُدُّ عليه -فضلا عن أن يُبيّن له سرقتَه و سطوه و تشبُّعَه بما لم يُعطه
إلى أن قرّر في لحظة ِ ما -بعدما بلغ غيظه منتهاه من تبجُّح ( طه حسين ) واستخفافه بعقول من حوله =فقرّر الشيخُ محمود الرّدّ .

هو يحكي هنا القصّة ، وفيها فوائد كثيرة نفسية و علمية
وقيمةُ:
-أن تكون مُعَدَّا إعدادا راسخا في العلم بالباطل ومواجهته ...
-و أنّ الباطل إنما ينفَقُ بضعف المُتلقي و عجز المُدافع عن الحق
-و أنّ الأدب الذي يجعلُك تُقرُّ باطلا أو تسكت عن ردّه =قلّة أدب
و أنّ ردّك غلطَ من غلط =ليس إنكارا لفضله عليك
-و أنّ عامّة دُعاة التغريب و العلمانيّة العرب ينقلون للعالم العربي ثقافات قومِ جهلة من الغرب ، وأنّ باطلهم كسرابِ بقِيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه/اختبرَه= لم يجده شيئا !

فيحكي أنه كان مُحبّا للشعر الجاهلي مٌتذوِقا له ،و كان كثيرَ الحديث عنه مع من يُجالسهم ،لكنّهم لم يكونوا يعتنون به ، إلا القليل ،ومنهم: أستاذه أحمد تيمور باشا
و حكى أن تيمور باشا قابله مرة و أعطاه مجلة إنجليزية، وقال له وهو يبتسم: اقرأ هذه!
يقول الشيخ محمود شاكر :
((فإذا فيها مقالة للأعجمي المستشرق مرجليوث، تستغرق نحو اثنتين وثلاثين صفحة من هذه المجلة، بعنوان (( نشأة الشعر العربي)). كنت خبيراً بهذا الأعجمي التكوين، التكوين :البدنيّ والعقلي، منذ قرأت كتابه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخذت المجلة وانصرفت، وقرأت المقالة، وزاد الاعجميُ سقوطاً على سقوطه. كان كل ما أراد أن يقوله: إنه يشك في صحة الشعر الجاهلي، لا ، بل إن هذا الشعر الجاهلي الذي نعرفه، إنما هو في الحقيقة شعر إسلامي وضعه الرواة المسلمون في الإسلام، ونسبوه إلى أهل الجاهلية، وسُخفاً في خلال ذلك كثيراً. #ولأني عرفت حقيقة الاستشراق=لم ألق بالاً إلى هذا الذي قرأت، وعندي الذي عندي من هذا الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي.

ثم بعد أيام لقيت أحمد تيمور باشا، وأعدت إليه المجلة، فسألني:
ماذا رأيت؟
قلت: رأيت أعجمياً بارداً شديد البرودة، لا يستحي كعادته!
فابتسم وتلألأت عيناه
فقلت له:
#أنا بلا شك أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافاً مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذل العمر
وأستطيع أن أتلّعب بنشأة الشعر الانجليزي منذ (شوسر) إلى يومنا هذا تلعباً هو أفضل في العقل من كل ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي
#ولكن ليس عندي من وقاحة التهجّم وصفاقة الوجه، ما يسوّل لي أن أخط حرفاً واحداً عن نشأة الشعر الإنجليزي.
#ولكن صروف الدهر التي ترفع قوماً وتخفض آخرين، قد أنزلت بنا وبلغتنا وبأدبنا، ما يبيح لمثل هذا المسكين وأشباهه من المستشرقين أن يتكلموا في شعرنا وأدبنا وتاريخنا وديننا، وأن يجدوا فينا من يستمع إليهم، وان يجدوا أيضاً من يختارهم أعضاء في بعض مجامع اللغة العربية!!
#وأغضى أحمد تيمور وهو يبتسم.

ومرّت الأيام، وغاص كلام هذا الأعجمي في لجج النسيان، لأن هذا الأعجم وأشباهه يدرسون آدابنا وشعرنا وتاريخنا كأنه نقش على مقبرة عاديّة قديمة، مكتوب بلغة ماتت ومات اهلها وطمرها تراب القرون !!
# والأسباب الداعية لهم إلى ركوب هذا المنهج كثيرة، أهونها شأناً: الأهواء والضغائن االمتوارثة، ولكن أوغلها أثراً أن توججهم إلى هذا المسلك:
#مسلك الاستشراق= هو أن جمرتهم غير قادرة أصلاً على تذوق الآداب تذوقاً يجعلها حيةً في نفوسهم قبل أن يكتبوا، وهم أيضاً مسلوبو القدرة على أن يبلغوا في لسانهم الذي ارتضعوه مع لبان أمهاتهم مبلغاً من التذوق، يعينهم على التعبير عنه تعبيراً يتيح لأحدهم أن يكون له شأنٌ يذكر في آداب لسانه= ولهذا العجز آثروا أن يكون لهم ذكر بالكتابة في شأن لغاتٍ أخرى يجهلها أقوامهم، وهذا الجهل يستر عوراتهم عند من يقرأ ما يكتبون من بني جلدتهم.
#ولأني خبرت ذلك فيما يكتبون، وفيما يقولونه بألسنتهم، لم يكن لمثل هذه الآراء في الشعر الجاهلي وغيره وقعٌ في نفسي يثيرني، اللهم إلا ما يثير تقزُّزي، فما أسرع ما أُسقط ما أقرأ من كلامهم جملة واحدة في يم النسيان.
كان ما كان،
ودخلنا الجامعة، وبدأ الدكتور طه يلقي محاضراته التي عرفت بكتاب ( في الشعر الجاهلي)). ومحاضرة بعد محاضرة، ومع كل واحدة يرتد إليّ رجع من هذا الكلام الأعجميّ الذي غاص في يمّ النسيان! وثارت نفسي، وعندي الذي عندي من المعرفة بخبيئة هذا الذي يقوله الدكتور طه = وعندي الذي عندي من هذا الإحساس المتوهج بمذاق الشعر الجاهلي، كما وصفته آنفاً، والذي استخرجته بالتذوق،وبالمقارنة بينه وبين الشعر الأموي والعباسي. وأخذني ما أخذني من الغيظ، وما هو أكبر وأشنع من الغيظ
#ولكني بقيت زمناً لا استطيع أن أتكلم.
تتابعت المحاضرات، والغيظ يفوز بي، والأدب الذي أدّبنا به آباؤنا وأساتذتنا يمسكني، فكان أحدنا يهاب أن يكلّم الأستاذ، والهيبة مَعْجَزة، وضاقت عليّ المذاهب، ولكن لم تخل أيامي يومئذ في الجامعة من إثارة بعض ما أجد في نفسي، في خفوت وتردد. ))
(حكَى الشيخ أنه تعرّف على شاب من قسم الفلسفة كان يُناقشه فيما يطرحه طه حسين و يُنكره ، و يُبيّن سرقتَه للمقال و هي حكاية مفيدة حذفتُها اختصارا.. )
ثمّ قال الشيخ محمود شاكر :
((واتفق أن جاء حديثه هذا في يوم من أيامي العصبية. فالدكتور طه أستاذي، وله عليّ حق الهيبة، هذا أدبنا. وللدكتور طه عليّ يد لا أنساها، كان مدير الجامعة يومئذ، (( أحمد لطفي السيد))، يرى أن لا حقّ لحامل (( بكالوريا)) القسم العلميّ في الالتحاق بالكليات الأدبية، ملتزماً في ذلك بظاهر الألفاظ !! فاستطاع الدكتور طه أن يحطّم هذا العائق بشهادته لي،/ وبإصراره أيضاً. فدخلت يومئذ بفضله كلية الآداب، قسم اللغة العربية، #وحفظ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه. وأيضاً، فقد كنت في السابعة عشرة من عمري، والدكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الأكبر، #وتوقير السن أدب ارتضعناه مع لبان الطفولة. كانت هذه الآداب تفعل بي فعل هوى المتنبي بالمتنبي حيث يقول:
رَمَى وَاتّقى رَميي وَمن دونِ ما اتّقى هوًى كاسرٌ كفّي وقوْسي وَأسهُمي
فلذلك ظللت أتجرع الغيظ بحتاً
وأنا أصغي إلى الدكتور طه في محاضراته
ولكني لا أستطيع أن أتكلم. لا أستطيع أن أناظره كفاحاً، وجهاً لوجه، وكل ما اقوله، فإنما أقوله في غيبته لا في مشهده. تتابعت المحاضرات، وكل يوم يزداد وضوح هذا السطو العريان على مقالة مرجليوث
ويزداد في نفسي وضوح الفرق بين طريقتي في الإحساس بالشعر الجاهلي، وبين هذه الطريقة التي يسلكها الدكتور طه في تزييف هذا الشعر. وكان هذا ((السطو)) خاصة مما يهز قواعد الآداب التي نشأت عليها هزاً عنيفاً.
#بدأت الهيبة مع الأيام تسقط شيئاً فشيئاً، وكدت ألقى حفظ الجميل ورائي غير مبالٍ، ولم يبق لتوقير السنّ عندي معنى، فجاء حديث الخضيري(هو زميله الذي كان يُناقشه) ، من حيث لا يريد أو يتوقع، لينسف في نفسي كل ما التزمت به من هذه الآداب. وعجب الخضيري يومئذ، لأني استمعت لحديثه، ولم ألقه لا بالبشاشة ولا بالحفاوة التي يتوقعها، وبقيت ساكناً، وانصرفت معه إلى حديث غيره.

#وفي اليوم التالي جاءت اللحظة الفاصلة في حياتي. فبعد المحاضرة، طلبت من الدكتور طه أن يأذن لي في الحديث، فأذن لي مبتهجاً، -أو هكذا ظننت-. وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي سماه (( منهجاً))، وعن تطبيقه لهذا ((المنهج)) في محاضراته، وعن هذا ((الشك)) الذي اصطنعه، ما هوا، وكيف هو؟ وبدأت أدلل على أن الذي يقوله عن ((المنهج)) وعن ((الشك)) غامض، وأنه مخالف لما يقوله ديكارت وأن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم تسليماً لم يداخله الشك، بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك!
وفوجئ طلبة قسم اللغة العربية، وفوجئ الخضيري خاصة. ولمّا كدت أفرغ من كلامي، انتهرني الدكتور طه وأسكتني، وقام وقمنا لنخرج. وانصرف عني كل زملائي الذين استنكروا غِضاباً، ما واجهت به الدكتور طه، ولم يبق معي إلا محمود محمد الخضيري، (من قسم الفلسفة كما قلت). وبعد قليل أرسل الدكتور طه يناديني، فدخلت عليه، وجعل يعاتبني، يقسو حيناً ويرفق أحياناً، وأنا صامت لا أستطيع أن أرد.
لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها كلها مسلوخة من مقالة مرجليوث، لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير، ولكني كنت على يقين من أنه يعلم أني أعلم، من خلال ما أسمع من حديثه، ومن صوته، ومن كلماته، ومن حركاته أيضاً!! وكتمان هذه الحقيقة في نفسي كان يزيدني عجزاً عن الرد، وعن الاعتذار إليه أيضاً، وهو ما كان يرمي إليه.
ولم أزل صامتاً مطرقاً حتى وجدت في نفسي كأني أبكي من ذل العجز، فقمت فجأة، وخرجت غير مودّع ولا مبال بشيء. وقضي الأمر! ويبس الثرى بيني وبين الدكتور طه إلى غير رجعة!
ومن يومئذ لم أكف عن مناقشة الدكتور في المحاضرات أحياناً بغير هيبة، ولم يكفّ هو عن استدعائي بعد المحاضرات، فيأخذني يميناً وشمالاً في المحاورة، وانا ملتزم في كل ذلك بالإعراض عن ذكر سطوه على مقالة مرجليوث، صارفاً همي كله إلى موضوع ((المنهج)) و ((الشك))، وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والإسلامي = قبل الحديث عن صحة نسبة هذا الشعر إلى الجاهلية، أو التماس الشبه لتقرير أنه باطل النسبة، وأنه موضوع في الإسلام، من خلال روايات في الكتب هي في ذاتها محتاجة إلى النظر والتفسير. ولكني من يومئذ أيضاً لم أكفّ عن إذاعة هذه الحقيقة التي أكتمها في حديثي مع الدكتور طه، وهي أنه سطا سطواً كريهاً على مقالة المستشرق الاعجمي، فكان بلا شك، يبلغه ما أذيعه بين زملائي. وكثر كلامي عن الدكتور طه نفسه، وعن القدر الذي يعرفه من الشعر الجاهلي، وعن أسلوبه الدّال على ما أقول. واشتدّ الامر، حتى تدخّل في ذلك، وفي مناقشتي، بعض الأساتذة، كالأستاذ (نلّينو)، والأستاذ جويدي من المستشرقين، وكنت أصارحهما بالسطو، وكانا يعرفان، ولكنهما يداوران.
وطال الصراع غير المتكافيء بيني وبين الدكتور طه زماناً، إلى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها، لا الجامعة وحدها، غير مبالً بإتمام دراستي الجامعية، طالباً للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في (( قضية الشعر الجاهلي))، بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعّب.
هذا مطلع قصّتي مع ((قضية الشعر الجاهلي))، ومع الدكتور طه خاصة، على وجه الإيجاز. عزمت يومئذ على مفارقة مصر، ثم الجامعة ومعي ذل العجز عن مواجهة الدكتور طه برأيي في تفاصيل هذا ((السطو)) جهاراً نهاراً بلا قناع، وبالذي أجده في نفسي من البشاعة، بشاعة ادّعاء المرء امتلاك ما يسطو عليه، كانه مما اهتدى إليه، واستحق نسبته إلى نفسه بعد طول معاناة في البحث وشقاء في الدرس! ))..ثم حكى الشيخ بشاعة سطو و سرقة (طه حسين)و نسبته ذلك إلى نفسه !و استعلاءه و استخفافه و عدم مبالاته برُدود الناس عليه ..كيف يواجهُهم ..بأي وجه..!

منذ 7 أعوام و 5 شهور
navigation