أسية محمود

# &zwj ;المؤمن_‍عزيز_‍غالب_‍منصور

"إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ".
إن ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه، قال تعالى: "واللهُ ولِى المُؤْمِنِينَ" .. "اللهُ ولِى الّذِينَ آمَنُوا".

وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان، كما قال تعالى: "وَأنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ".

فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة؛ بقدر حظه من الإيمان.

وكذلك النصر والتأييد الكامل؛ إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: "فَأيَّدْنا الّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ".

فمن نقص إيمانه، نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه، أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.

وبهذا يزول الإشكال، الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: "وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا".

ويجيب عنه كثير منهم؛ بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة.

# التحقيق : أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل، بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل، بما تركوا من طاعة الله تعالى.

ف‍المؤمنعزيزغالب مؤيد ‍منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا، وقد قال تعالى للمؤمنين: "وَلاَ تَهِنُوا ولا تحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" .. "فَلاَ تَهِنُوا وتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وأنْتُمٌ الأعْلَوْنَ واللهُ مَعَكمْ ولَنْ يَتِرَكم أعْمالَكُمْ".
ـ ابن القيم

منذ عام و 6 شهور
هشام عزمي

دائرة توحيد المبادئ - عدم جواز حظر ارتداء النقاب - ضوابط ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم
باسم الشعب
مجلس الدولة
المحكمة الإدارية العليا
دائرة توحيد المبادئ
*************

بالجلسة المنعقدة علناً في يوم السبت الموافق 9/6/2007 م
برئاسة السيد الأستاذ المستشار / السيد السيد نوفل رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة
وعضــــوية الســادة الأســــاتذة المستشــــارين / محمد أحمـــد عطية إبراهيم وإسماعيل صديق محمد راشد وكمال زكى عبد الرحمن اللمعى والسيد محمد السيد الطحان وإدوارد ‍غالب سيفين وعبد الباري محمد شكري وعصام الدين عبد ال‍عزيز جاد الحق وسامي أحمد محمد الصباغ وحسين على شحاتة السماك وأحمد عبد ال‍عزيز إبراهيم أبو العزم . نواب رئيس مجلس الدولة .
بحضور السيد الأستاذ المستشار / عبد القادر قنديل نائب رئيس مجلس الدولة ومفوض الدولة .

وحضور السيد / كمال نجيب رمسيس سـكرتير المحكــمة.

أصدرت الحكم الآتي

في الطعن رقم 3219 لسنة 48 القضائية عليا

المقـــام من :
رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة " بصفته"

ضــــــــد

1-إيمان طه محمد الزينى
2-وزير التعليم العالي بصفته.

في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بالقاهرة ( الدائرة الثانية ) في الدعوى رقم 10566 لسنة 55 ق بجلسة 2/12/2001.

الإجــــــــراءات

في يوم الثلاثاء الموافق 29 من شهر يناير سنة 2002 أودع الأستاذ عبد القادر السيد المحامى نائبا عن الدكتور أحمد حسن البرعى المحامى بصفته وكيلاً عن الطاعن بصفته قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقريراً بالطعن قيد بجدولها تحت رقم 3219 لسنة 48 ق.ع في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بالقاهرة ( الدائرة الثانية ) في الدعوى رقم 10566 لسنة 55 ق بجلسة 2/12/2001 والقاضي بقبول الدعوى شكلاً وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الجامعة المدعى عليها المصروفات .

وطلب الطاعن – للأسباب الواردة بتقرير الطعن – قبول الطعن شكلا وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه , وبعدم اختصاص محكمة القضاء الإداري ولائياً بالدعوى , واحتياطيا : بإلغاء الحكم المطعون فيه وبرفض طلب وقف تنفيذ القرار المطعون فيه , وبإلزام المطعون ضدها بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة عن الدرجتين .

وقد تم إعلان الطعن قانوناً .

وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريراً بالرأي القانوني ارتأت فيه الحكم بقبول الطعن شكلا ورفضه موضوعاً وحددت لنظر الطعن جلسة 1/12/2003 أمام الدائرة الأولى عليا ( فحص الطعون) وبجلسة 3/5/2004 قررت إحالته إلى دائرة الموضوع التي نظرته بجلسة 12/6/2004 وبالجلسات التالية على النحو الثابت بمحاضر الجلسات حتى قررت بجلسة 28/1/2006 إحالة الطعن إلى دائرة توحيد المبادئ المشكلة بالمادة 54 مكرراً من القانون رقم 47 لسنة 1972 بشـــأن مجلس الدولة لنظره بجلسة 11/2/2006 .

وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريراً بالرأي القانوني ارتأت فيه :

1- أن حقيقة طلبات المدعية في الدعوى المطعون في حكمها بالطعن الماثل وفقا للتكييف القانوني السليم هي إلغاء قرار وزارة التعليم العالي ( بما لها من سلطة الإشراف على أوجه نشاط الجامعة الأمريكية المختلفة ) السلبي بالامتناع عن إلغاء قرار مجلس عمداء الجامعة الأمريكية بالقاهرة فيما تضمنه من أن النقاب غير مسموح ارتداؤه داخل الفصول والمكتبات بالجامعة الأمريكية .

2- النقاب غير محظور شرعا وإنما هو زى مباح للمرأة ارتداؤه وفقا لما تراه تجسيدا لحريتها الشخصية والعقيديه ولا يجوز لأية سلطة أن تمس هذه الحرية وتلك العقيدة ، وقد تم نظر الطعن بجلسـة 11/2/2006 وبالجلســـــات التالية على النحو الثـــابت بالمحاضر.

وبجلسة 9/12/2006 تقرر إصدار الحكم في الطعن بجلسة 10/2/2007 ثم مد أجل النطق بالحكم لجلسة اليوم وفيها صدر هذا الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به .

المحكمــــــــــــــة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة .

من حيث إن وقائع المنازعة تخلص – حسبما يبين من الحكم المطعون فيه ومن سائر الأوراق – في أن المطعون ضدها إيمان طه محمد الزينى أقامت الدعوى رقم 10566 لسنة 55 ق بإيداع صحيفتها قلم كتاب محكمة القضاء الإداري بتاريخ 8/8/2001 طلبت في ختامها الحكم بوقف تنفيذ وإلغاء القرار الصادر بمنعها من الدخول لمكتبة الجامعة الأمريكية والجامعة المدعى عليها مرتدية النقاب , وذكرت شرحا لدعواها أنها مشتركة بمكتبة الجامعة الأمريكية منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما حصلت خلالها على درجة الماجستير والدكتوراه لأنها من بين الفئات المسجلة بإحدى الجامعات المصرية للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه حيث إنها تعمل مدرسا مساعداً بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر وتقوم بعمل أبحاث للحصول على درجة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية وقد فوجئت في الفترة الأخيرة بمنعها من دخول الجامعة المدعى عليها وعلى وجه التحديد مكتبة الجامعة بحجة صدور قرار بمنع المنقبات من التواجد داخل الجامعة أو أي مكان متعلق بالجامعة .

ونعت على القرار مخالفته القانون والدستور وبجلسة 2/12/2001 صدر حكم محكمة القضاء الإداري المطعون فيه بقبول الدعوى شكلاً وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه مع ما يترتب على ذلك من آثار وإلزام الجامعة المصروفات , وأقامت المحكمة قضاءها على أنه بالنسبة للاختصاص فإن الجامعات الخاصة إنما تقوم على مرفق قومي هو مرفق التعليم الذي يتأبى على أن تخرج المنازعات التي تثور بشأنه أو بمناسبة سيره وأدائه لوظيفته بحســــبانه مرفقا عاما من اختصاص قاضى المشروعية وهو قــول واحد ( مجلس الدولة) بهيئة قضاء إداري وبالنسبة لطلب وقف التنفيذ وفى مقام ركن الجدية قام الحكم على أن إسدال المرأة النقاب أو الخمار على وجهها إن لم يكن واجبا شرعيا في رأى فإنه في رأى آخر ليس بمحظور شرعا ولا يجرمه القانون كما لا ينكره العرف ويظل النقاب طليقا في غمار الحرية الشخصية ومحررا في كنف الحرية العقيدية ومن ثم لا يجوز حظره بصفة مطلقة أو منعه بصورة كلية على المرأة ولو في جهة معينة أو مكان محدد مما يحق لها ارتياده لما يمثله هذا الحظر المطلق أو المنـــع الكلى من مساس بالحرية الشخصية في ارتداء الملابس ومن تقييد للحرية العقيدية ولو إقبالا على مذهب ذي عزيمة أو إعراضا عن آخر ذي رخصة دون تنافر مع قانون أو اصطدام بعرف بل تعريفا وافيا لصاحبته ومظهراً مغريا بالحشمة ورمزاً داعيا للخلق القويم عامة فلا جناح على امرأة أخذت نفسها بمذهب شدد بالنقاب ولم ترتكن إلى آخر خفف بالحجاب أيا كان الرأي في حق المشرع الوضعي للدستور في الانتصار لمذهب شرعي على آخر في مسألة أدخل في العبادات أسوة بحقه هذا في نطاق المعاملات رفعا للخلاف فيها وتوحيدا للتطبيق بشأنها فهذا الحق لا يثبت لغير السلطة التشريعية ولو كان من القائمين على المسئولية في غيرها مثل مجلس الجامعة أو رئيسها أو عمداء الكليات فلا يجوز لأيهم فرض ذلك الحظر المطلق والمنع التام للنقاب في الجامعة أو الكلية .

وأضافت المحكمة أنه لما كان البادي من ظاهر الأوراق أن المدعية مقيدة بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر فرع البنات بالقاهرة للحصول على درجة الدكتوراه ومشتركة في مكتبة الجامعة الأمريكية وتقوم بسداد الاشتراكات اللازمة ومن ضمن الفئات التي سمحت لهم الجامعة المذكورة بالتردد عليها للاطلاع والاستفادة في البحث إلا أنها فوجئت بأن الجامعة تحول بينها وبين التردد عليها وحرمانها من الدخول والاستفادة من مكتبتها على سند أنها ترتدي النقاب عملا بقرار مجلس عمداء الكليات المقدم ضمن حافظة مستندات الجامعة بجلسة 28/10/2001 ومن ثم فإن حرمان المدعية من دخول الحرم الجامعي والتردد على المكتبة استنادا إلى هذا القرار يكون مخالفا للدستور والقانون ويضحى بحسب الظاهر من الأوراق معيبا مما يرجح إلغاؤه ويتوافر معه ركن الجدية في طلب وقف تنفيذه فضلا عن توافر ركن الاستعجال لما يترتب على تنفيذه من نتائج يتعذر تداركها تتمثل في حرمان المدعية من مواصلة البحث للحصول على درجة الدكتوراه والتأثير على مستقبلها العلمي بدون سند مشروع ومن ثم يتعين الحكم بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه مع ما يترتب على ذلك من آثار .

ومن حيث إن الجامعة الأمريكية بالقاهرة لم ترتض الحكم المذكور . فأقامت الطعن رقم 3219 / 48 ق.ع أمام الدائرة الأولى عليا تأسيسا على مخالفة الحكم المطعون فيه للقانون فيما يتعلق بالاختصاص بالطعون ضد قرارات الجامعة الأمريكية باعتبارها شخصاً قـانونيا خاصا ولا تقاس في هذا الشأن على الجامعات الخاصة المصرية , كما شاب الحكم فساد في الاستدلال لأن المدعية ليست من طالبات الجامعة الأمريكية وقد سمح لها بالتردد على مكتبة الجامعة وفقا لنظام خاص وعلى سبيل الاستثناء , كما خالف الحكم الطعين قضاء المحكمة الدستورية العليا في حكمها في الطعن رقم 8 لسنة 17 ق دستورية بجلسة 18/5/1996 وخالف أيضا أحكام المحكمة الإدارية العليا المتعددة وأخيراً فإن الحكم الطعين قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه وتأويله فيما قضى به من مســـاس القرار المطعـــــون فيه بحرية العقيـــــدة والحرية الشخصية فإلزام
الطالبات بإظهار وجوههن بهدف المحافظة على الأمن لا يمس حرية العقيدة ولا بالحرية الشخصية وطلبت الجامعة الطاعنة في ختام تقرير الطعن بقبول الطعن شكلا وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه وبعدم اختصاص القضاء الإداري ولائيا بالدعوى , واحتياطيا بإلغاء الحكم المطعون فيه , وبرفض طلب وقف تنفيذ القرار المطعون فيه , وبإلزام المطعون ضدها بالمصاريف ومقابل أتعاب المحاماة عن الدرجتين .

ومن حيث إنه قد تبين للمحكمة الإدارية العليا ( الدائرة الأولى – موضوع ) أنه سبق للمحكمة الإدارية العليا أن قضت بجلسة 1/7/1989 في الطعنين رقمي 1316 , 1905 لسنة 34 ق.ع بعدم جواز حظر ارتداء النقاب لما يمثله الحظر من مساس بالحرية الشخصية , واستمر قضاء هذه المحكمة بتطبيق هذا المبدأ في أحكامها الصادرة بجلسة 15/6/1994 في الطعون أرقام 4234 , 4235 , 4236 , 4237 , 4238 لسنة 40 ق.ع , وبجلسة 11/4/1999 في الطعن رقم 4142 لسنة 42 ق , وبجلسة 18/7/1999 في الطعن رقم 2106 لسنة 42 ق.

وبجلسة 5/12/1999 عدلت المحكمة عن تطبيق هذا المبدأ وقضت بأنه لا تثريب على رئيس جامعة ال‍منصورة وهو القائم على شئونها أن يضع من الضوابط التي تلتزم بها الكلية بـأن يكون دخول الطلبة والطالبات بالزى المعتاد المألوف , وانتهت المحكمة إلى إلغاء حكم محكمة القضاء الإداري الصادر بوقف تنفيذ قرار منع دخول الجامعة لمن ترتدي النقاب , وبرفض طلب وقف تنفيذ القرار المطعون فيه .

وإزاء الخلاف السابق في الأحكام الصادرة من المحكمة الإدارية العليا في شأن مدى أحقية المرأة المسلمة في ارتداء النقاب حين تعاملها مع بعض الجهات في ظل أحكام الشريعة الإسلامية والمبادئ الدستورية والقانـــونية المقررة وذلك على النحو السالف بيانه , فقد قررت الدائرة الأولى إحالة الطعن المقــــام أمامها إلى هذه الهيئة إعمالا لحكم المادة 54 مكررا من القانون رقم 47 لسنة 1972 .

ومن حيث إنه عما دفعت به الجامعة الطاعنة بعدم اختصاص مجلس الدولة بنظر المنازعة الماثلة تأسيسا على أن الجامعة الأمريكية بالقاهرة تعد شخصا قانونيا خاصا وليست سلطة إدارية وأن المنازعات التي تثور بينها وبين غيرها من الأشخاص القانونية الخاصة لا ينطبق عليها وصف المنــازعات الإدارية وتخرج عن اختصاص مجلس الدولة .

وبالرجوع إلى الاتفاقية الموقعة بين الجمهورية العربية المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية بتـــاريخ 21/5/1962 والتي نفــــذت في ذات التاريخ وأنشــئت بموجبها الجــــامعة الأمريكية بالقــــاهرة يبين أنها نصت في المـادة الأولى من هذه الاتفـــاقية بند د على أن " إنشاء مراكز ومؤسسات ثقافية ببلد الطرف الآخر بشروط يتفق عليها في كل حالة وفقا للقوانين والنظم المتبعة بالبلد الذي قد تنشأ به تلك المؤسسات .

ونصت المادة السابعة من ذات الاتفاقية على أنه , لن تؤثر هذه الاتفاقية على تغيير القوانين المنفذة بأي بلد وبالإضافة إلى ذلك يتم التعهد بالوفاء بمسئوليات كل حكومة المحددة بهذه الاتفاقية بما يتفق مع دستور كل منها والقوانين و التعليمات ومتطلبات سياستها المحلية .

ثم صدر قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 146 لسنة 1976 (بعد موافقة مجلس الشعب ) بالبروتوكول الخاص بوضع وتنظيم الجامعة الأمريكية بالقاهرة بتاريخ 13/11/1975 واعتبرت الحكومة الأمريكية هذه الجامعة معهداً ثقافياً يدخل في نطاق المادة الأولى فقره (د) من الاتفاق الثقافي المشار إليه .

ونصت المادة الأولى من هذا البروتوكول على أن " تهدف الجامعة الأمريكية باعتبارها معهداً ثقافياً إلى ما يلي :

أ ) تشجيع وزيادة التعاون الثقافي والعلمي بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية في ميدان التعليم العالي والبحث العلمي والفني و الأدبي وبمراعاة أن لا يتعارض مع القوانين المعمول بها في مصر .

ب......................

وتنص المادة الثالثة من البروتوكول على أن " تسير سياسة الجامعة في تعيين أعضاء هيئة التدريس على النحو التالي : (أ) ............... (ب .......................

ج تعرض أسماء غير المصريين من المرشحين لشغل الوظائف الإدارية الرئيسية أو وظائف هيئة التدريس أو المطلوب تجديد مدة استخدامهم على السلطة المصرية المختصة (وزارة التعليم العالي.

وتنص المادة الرابعة على أن " للحكومة المصرية الحق في تعيين مستشار مصري بموافقة مجلس الأمناء يشارك في إدارة الجامعة الأمريكية والإشراف على أوجه نشاطها المختلفة ويعمل بصفة أساسية كحلقة اتصال بين السلطات المصرية المختصة وبين إدارة الجامعة ...."

وتنص المادة الثانية على أن " تعتبر الدرجات العلمية ..... وفى حالة قيام الجامعة الأمريكية بمنح درجات أخرى تشكل لجنة مشتركة بوزارة التعليم بناء على طلب الجامعة الأمريكية للنظر في الاعتراف بهذه الدرجات والشهادات العلمية ."

وتنص المـادة التاسعة على أنه " إذا رغبت الجامعة الأمريكية في إنشاء درجات أو معاهد جديدة غير القائمة فعلاً فلا بد من الحصول على موافقة وزارة التعليم العالي بعد استشارة لجنة مشتركة من وزارة التعليم العالي والجامعة الأمريكية .

ومن حيث إن الاتفاقية والبروتوكول بما تضمناه من نصوص تؤكد إشراف جمهورية مصر العربية بواسطة وزارة التعليم العالي على سائر أنشطة الجامعة الأمريكية بالقاهرة و احترام الأخيرة والتزامها بكافة نصوص الدستور المصري والقوانين المطبقة في مصر والتعليمات ومتطلبات السياسة المحلية على حد عبارة المادة السابقة من الاتفاقية .

ومن حيث إن طلبات المطعون ضدها في الدعوى المبتدأه تتمثل – وفقاً للتكييف القانوني الصحيح – في إلغــــاء قرار الجهــة الإداريـة المختصة في مصـــر ( وزارة التعليم العالي ) السلبي بالامتناع عن إلغاء قرار مجلس عمداء الجامعة الأمريكية بالقاهرة والذي نص على أنه " لأسباب أمنية قرر العمداء أن النقاب غير مسموح ارتدائه داخل الفصول و المعامل ومكتبات الجامعة الأمريكية بالقاهرة والذي تأكد بقرار الجامعة الصادر من مقرر سياسة الجامعة في 23/1/2001 بأن " تنص سياسة الجامعة الأمريكية بالقاهرة على منع ارتداء النقاب في أي مكان داخل الجامعة وهما من القرارات الإدارية التي يختص بنظرها مجلس الدولة ويتعين بالتالي رفض الدفع المبدى من الجامعة الأمريكية في هذا الخصوص .

ومن حيث إنه عن الموضوع فإن النزاع الماثل ينحصر في مدى أحقية الجامعة الأمريكية بالقاهرة وغيرها من الجهات في جمهورية مصر العربية في منع دخول المرأة المسلمة مرتدية النقاب إلى هذه الجهات وذلك في ضوء أحكام النصوص الدستورية والمبادئ القانونية المقررة ومن ثم مدى مشروعية قراري الجامعة الأمريكية سالفى البيان بالحظر المطلق على المطعون ضدها ارتداء النقاب في أي مكان داخل الجامعة المذكورة .

ومن حيث إن المستفاد من الشريعة الإسلامية التي هي المصدر الرئيسي للتشريع حسب نص المادة الثانية من الدستور أن زي المرأة المسلمة يجب ألا يكون وصافاً يفصل أجزاء الجسم ولا شفافاً أو لافتاً للنظر ، وأن يكون ساتراً للجسم كله ما عدا الوجه والكفين آخذاً بقول الله تعالى في سورة الأحزاب " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلــبِيبِهِنَّ...." ( الآية 59) أما نقاب المرأة التي تغطي به وجهها وقفازها التي تغطى به كفيها فجمهـــور الفقهاء على أن ذلك ليس واجباً وأنه يجـــوز لها أن تكشـــف وجهها وكفيها آخــذاً من قـــــوله تعـالى " وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاْ مَا ظَهَرَ مِنْهَا.... (سورة النور الآية 31 ) حيث فسر جمهور الفقهاء من السلف والمعاصرين ما يظهر من الزينة بالوجه والكفين لأن ال‍غالب هو ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج فلزم أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما . ولو كانت المرأة مفروضاً عليها شرعاً إخفاء وجهها بنقاب وكفيها بقفاز ما كان هناك حاجة لأن يأمر الله تعالى ‍المؤمنين بأن يغضوا من أبصـــارهم في قـــوله تعالى " قلْ لِلْمُـــؤْمِنِينَ يَغُضُّــوا مِنْ أَبْصَــارِهِمْ " ( ســـورة النور الآية 30) إذ ليس ثمة ما يبصر حتى يغض عنه .

ومن حيث إنه متى كان ما تقدم وإذ لم يقم دليل صريح من القرآن والسنة بوجوب إخفاء الوجه والكفين ومن ثم فإن ارتداء النقاب ليس محظوراً ولا منهياً عنه فهو من المباحات ولا يجوز إخراجه من أصل الإباحة إلى الحظر المطلق والمنع التام وعليه فإن ستر الوجه والكفين للمرأة المسلمة ليس فرضاً وإنما يدخل في دائرة المباح فإن سترت وجهها وكفيها فهو جائز وإن كشفتهما لاختلاف الأحوال واحتياجها للخروج لبعض شئونها أو للعمل خارج بيتها والتعامل مع جميع الجهات فقد أتت بما رخص لها به في حدود الحاجة و الضرورة وبرأت ذمتها .

ومن حيث إن المــــادة (2) من دستــور جمهــورية مصر العربية تنص على أن " الإسلام دين الدولة الرسمي ، واللغة العربية لغتها الرسمية ، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع " ، كما تنص المادة (18) على أن " التعليم حق تكفله الدولة وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مرحلة أخرى وتشرف على التعليم .

وتنص المادة (40) من الدستور على أن " المواطنين لدى القانون سواء ، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ، لا تمييز بينهم بسبب ***** أو الأصل أو اللغة أوالدين أو العقيدة " وتنص المادة (41) من الدستور على أن : " الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس ...." كما تنص المادة (46) على أن " تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية " وتنص المادة (57) أيضاً على أن " كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرية الحياة الخاصة بالمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور والقانون جريمة ..."

ومن حيث إنه يبين من ذلك أن المشرع الدستوري أضفى سياجاً من الحماية على الحرية الشخصية وعلى الحقوق و الحريات العامة ، ولما كان ارتداء النقاب بالنسبة للمرأة المسلمة هو أحد مظاهر هذه الحرية فإنه لا يجوز لجهة الإدارة أو أي جهة أخرى حظر ارتدائه حظراً مطلقاً . فكما يترك للمرأة عموماً الحرية في أن ترتدي ما تشاء من الثياب غير مقيــدة في ذلك بضــوابط الاحتشــام نزولاً على الحرية الشخصية ، فإنه يحق كذلك للمرأة المسلمة أن ترتدي الزى الذي ترى فيه المحافظة على احتشامها ووقارها ، وألا تكون ثمة تفرقة غير مبررة بين الطائفتين لا سند لها من القانون أو الدستور .

ومن حيث إنه متى كان ستر الوجه والكفين للمرأة المسلمة ليس فرضاً وإنما يدخل في دائرة المباح شرعاً ، والمكفول بالحماية دستورياً , وأنه – بالتالي – لا يجوز حظر ارتداء النقاب حظراً مطلقاً ، لتعارض ذلك مع الحرية الشخصية التي كفلها الدستور ، فإنه يجوز متى اقتضت الضرورة والصالح العام التحقق من شخصية المرأة نزولاً على مقتضيات الأمن العام أو لتلقى العلم والخدمات المختلفة ، أو لادائهما ، أو لغير ذلك من الاعتبارات التي تتطلبها الحياة اليومية المعاصرة والتي تستوجب التحقق من شخصية المرأة متى طلب منها ذلك من الجهات المختصة وذلك لإحدى بنات جنسها أو لمختص معين من الرجال ، وبالقدر اللازم لتحقيق ما تقدم تحت رقابة القضاء .

ومن حيث إنه من ناحية أخرى – إذا كان ارتداء النقاب بالنسبة للمرأة المسلمة هو إحدى مظاهر الحرية الشخصية فإن هذه الحرية لا ينافيها أن تلتزم المرأة المسلمة وفى دائرة بذاتها بالقيود التي تضعها الجهة الإدارية أو المرفق على الأزياء التي يرتديها بعض الأشـــخاص في موقعهم من هذه الدائرة لتكون لها ذاتيتها فلا تختلط أردتهم بغيرها ، بل ينسلخون في مظهرهم عمن سواهم ليكون زيهم موحداً متجانساً ولائقاً بهم دالاً عليهم ومعرفاً بهم وميسراً صور التعامل معهم ، فلا تكون دائرتهم هذه نهباً لآخرين يقتحمونها غيلة وعدواناً ، ليلتبس الأمر في شأن من ينتمون إليها حقاً وصدقاً ، كما هو الشأن بالنسبة للقوات المسلحة والشرطة والمستشفيات وغيرها ، وترتيباً على ذلك فإن المرأة المسلمة التي ارتضت النقاب لباساً لها أخذاً بحريتها الشخصية أن تلتزم بما تفرضه تلك الجهات من أزياء على المنتمين لها في نطاق الدائرة التي تحددها إن هي رغبت في الاندراج ضمن أفراد تلك الدائرة .

ومن حيث إن اختصاص دائرة توحيد المبادئ محدد بنص المادة 54 مكرراً من قانون مجلس الدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1972 والمضافة بالقانون رقم 136 لسنة 1984 والتي تنص على أنه " إذا تبين لإحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا عند نظر أحد الطعون أنه صدرت منها أو من إحدى دوائر المحكمة أحكام سابقة تخالف بعضها البعض أو رأت العدول عن مبدأ قانوني قررته أحكام سابقة صادرة من المحكمة الإدارية العليا تعين عليها إحالة الطعن إلى هيئة تشكلها الجمعية العمومية لتلك المحكمة في كل عام قضائي من أحد عشر مستشاراً برئاسة رئيس المحكمة أو الأقدم فالأقدم من نوابه .... " .

ومن حيث إن هذا النص يجيز لهذه الدائرة – أخذاً بحكم سابق لها في الطعن رقم 3564 لسنة 32 ق.ع جلسة 3/6/1990 – أن تقتصر في حكمها الذي تصدره بعد اتصالها بالطعـن عـلى البت في المسألة القانونية التي كانت محلاً لتناقض الأحكام أو إقرار مبدأ قانوني على خلاف أحكام سابقة ثم تحيل بعد ذلك إلى دائرة المحكمة الإدارية العليا المختصة لتفصل في موضوعه وفقاً للمبدأ الذي أرسته بحكمها وذلك على النحو الذي اضطرد عليه قضاء هذه الدائرة فإن هذا النص أيضاً لا يحول بين هذه الهيئة والفصل في الطعن الذي اتصلت به بقرار الإحالة بحكم منه للنزاع دون الوقوف عند القضاء بالمبدأ القانوني الذي يطبق على هذا النزاع ما دام أن الطعن قد استقامت عناصره وكان صالحاً للفصل فيه .

ومن حيث إن حقيقة طلبات المطعون ضدها ( المدعية في الدعوى المطعون في حكمها ) وفقاً للتكييف القانوني السليم الذي تسبغه المحكمة على هذه الطلبات هي إلغاء قرار وزير التعليم العالي – بما لـه من سلطة الإشراف على أوجه نشاط الجامعة الأمريكية – السلبي بالامتناع عن إلغاء قرار مجلس عمداء الجامعة الأمريكية بالقــاهرة والذي نص على أنه " لأسباب أمنية قرر العمداء أن النقاب غير مسموح ارتداؤه داخل الفصول والمعامل ومكتبات الجامعة الأمريكية بالقاهرة " وهو ما يقتضي بحث تلك الأسباب الأمنية التي استند إليها قرار مجلس عمداء الجامعة الأمريكية وما إذا كانت صحيحة في الواقع والقانون من عدمه بإنزال المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة بشأن ارتداء النقاب على تلك الأسباب وذلك توصلاً للحكم على مدى صحة أو عدم صحة القرار السلبي لوزير التعليم العالي بالامتناع عن إلغاء قرار مجلس عمداء الجامعة الأمريكية المشار إليه .

ومن حيث إن قضاء المحكمة الإدارية العليا قد استقر على أن القرار الإداري يجب أن يقوم على سبب يبرره حقاً وصدقاً أي في الواقع والقانون باعتباره ركنًا من أركان وجوده ونفاذه وباعتبار أن القرار تصرفاً قانونياً ، ولا يقوم أي تصرف قانوني بغير سببه وإذا ما ذكرت الإدارة لقرارها سبباً فإنه يكون خاضعاً لرقابة القضاء الإداري للتحقق من مدى مطابقته للقانون أو عدم مطابقته ، وأثر ذلك في النتيجة التي انتهى إليها القرار .

وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن الرقابة على القرارات الإدارية هي رقابة مشروعية تسلطها على القرارات المطعون فيها لتزنها بميزان القانون والشرعية والمصلحة العامة ، فتلغيها وتوقف تنفيذها لو تبين صدورها مخالفة لأحكام القانون بصفة عامة ، أو انحرافها عن الغاية التي حددها الدستور والقانون لسلامة تصرفات الإدارة وهى تحقيق الصــــالح العام إلى اســـتهداف غير ذلك من الأغراض غير المشـــروعية ، والعبرة في تقدير مدى مشروعية السبب الذي بنى عليه القرار يكون بمراعاة السبب الحقيقي الذي صدر استناداً إليه القرار المطعون فيه .

ومن حيث إنه بتطبيق ما تقدم على واقعات الطعن الماثل فإن البين من الأوراق أن المطعون ضدها ( المدعية في الدعوى المطعون في حكمها ) مشتركة بمكتبة الجامعة الأمريكية منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً وقت إقامة دعواها سنة 2001 حيث تعمل مدرساً مساعداً بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر ، وكانت تتردد على مكتبة الجامعة الأمريكية للتحضير لرسالة الماجستير التي حصلت عليها بالفعل ، ثم ظلت تتردد عليها استعداداً للحصول على درجة الدكتوراه إلى أن قرر مجلس عمداء الكليات بالجامعة الأمريكية أنه " لأسباب أمنية قرر السادة عمداء الكليات منع ارتداء النقاب داخل فصول أو معامل أو مكتبات الجامعة الأمريكية بالقاهرة . وبناء عليه ولأسباب أمنية يمنع ارتداء النقاب داخل حرم الجامعة الأمريكية بالقاهرة فوراً وتنفيذاً لذلك القرار منعت المطعون ضدها من دخول حرم الجامعة ومكتبتها بسبب ارتدائها النقاب ، ولم تقدم الجامعة الطاعنة أي دليل على وجـــود سبب أمني يدعو إلى منع المطعون ضدها من ارتداء النقاب ، كما أجدبت أوراق الطعن الماثل تماماً من وجود أي مظهر من مظاهر الإخلال بالأمن داخل الجامعة من المطعون ضدها ، وهو ما يعني أن منع ارتداء النقاب داخل الجامعة لم يكن لأسباب أمنية ، كما زعم قرار مجلس عمداء الكليات بالجامعة ، وإنما السبب الحقيقي هو منع ارتداء النقاب في حد ذاته .

وقد تأكد ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شك من المنشور الذي قامت الجامعة الأمريكية بتوزيعه والموجه إلى جميع أعضاء مجتمع الجامعة الأمريكية بالقاهرة من مقرر سياسة الجامعة عن موضوع سياسة ارتداء النقاب ، والمؤرخ في 23 من يناير 2001 والذي طويت عليه حافظة مستندات الجامعة ذاتها مستند رقم (12) حيث نص بالحرف على ما يلي " تنص سياسة الجامعة الأمريكية بالقاهرة على منع ارتداء النقاب داخل حرم الجامعة " .

ومن حيث إن متى كان ذلك ، وقد ثبت للمحكمة على وجه القطع واليقين أن السبب الحقيقي لمنع دخول المطعون ضدها حرم الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومكتبتها هو كونها ترتدي النقاب وليس لأي سبب أمني ، وكان الحظر المطلق لارتداء النقاب أمراً غير جائز لتنافيه مع الحرية الشخصية التي كفلها الدستور ، ولكونه يدخل في دائرة المباح شرعاً على النحو السالف بيانه ، فإن القرار المطعون فيه – بالتكييف القانوني السليم الذي أسبغته المحكمة على طلبــات المطعون ضدها في دعواها المطعون على حكمها . يكون غير قــــائم على سبب صحيح في الواقع والقـــــانون مما يتوافر معه ركن الجدية ويجعله مرجح الإلغاء عند الفصل في موضوعه فضلاً عن توافر ركن الاستعجال المتمثل في حرمان المطعون ضدها من مواصلة دراستها والبحث العلمي مما يؤثر على مستقبلها العلمي وهى نتائج يتعذر تداركها .

ومن ثم وإذ قضى الحكم المطعون فيه لذلك بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه فإنه يكون متفقاً وصحيح أحكام القانون . ولا ينال من ذلك ما تتذرع به الجامعة الطاعنة من أن نظام المكتبة نظام استثنائي تقوم به الجامعة على سبيل التسامح ويمكنها إلغاؤه في حالة الدخول بالنقاب ، فهذا القول مردود بأن الجامعة وفقاً للاتفاقية والبروتوكول السالف الإشارة إليهما تلتزم بتقديم هذه الخدمة تحت إشراف وزارة التعليم العالي بجمهورية مصر العربية لجميع من توافرت فيهم شروط الانتفاع بها ولا يجوز لها أن تمنع من الاستفادة من هذه الخدمة امرأة ارتضت بالنقاب وتسمح بها لأخرى تجردت من كثير من زيها ، وإلا كان في ذلك إخـــلال بالمساواة إذا كانت كلتاهما ممن يحق لها استخدام المكتبة ، وهى مساواة كفلها الدستور ونص عليها بصراحة ووضوح ويكون المنع موجباً لتدخل الوزارة المشار إليها لتصويب ذلك على نحو ما سلف بيانه .

ومن حيث إنه على ما تقدم فإن الحكم المطعون فيه إذ قضى بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه لقيامه على ركنيه الجدية والاستعجال مع ما يترتب على ذلك من آثار فإنه يكون متفقاً وصحيح حكم القانون ويكون الطعن عليه على غير أساس من القانون جديرًا بالرفض ، مع الإشارة إلى أن أخص الآثار المترتبة على وقف تنفيذ القرار هي عدم جواز الحظر المطلق لارتداء النقاب مع جواز قيام الجامعة الطاعنة بإلـزام كل مـن تـرتـدي النقـاب بالكشـف عـن وجهها لإحدى بنات جنسها أو لمختـص تعـينه الجـامعة من الرجـال متى طلـب منهـا ذلك لاعـتـبـارات أمـنية أو تعليمية أو خدمية أو لغير ذلك من الاعتبارات التي تقتضي التحقق من شخصية من ترتدي النقاب وبالقدر اللازم لتحقيق ذلك تحت رقابة القضاء .

ومن حيث إن من يخسر الطعن يلزم بالمصروفات عملاً بحكم المادة 184 من قانون المرافعات .

فلهــــــذه الأســــــباب

حكمت المحكمة برفض الدفع بعدم اختصاص مجلس الدولة بنظر المنازعة الماثلة و باختصاصه ، و بقبول الطعن شكلا و رفضه موضوعاً و الزمت الجامعة الطاعنة المصروفات .

منذ عام و 8 شهور
أبو علي الباقلاني

"وكذلك النصر والتأييد الكامل. إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] وقال {فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] .

فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هى بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه

وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]

ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الحجة

والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى

ف‍المؤمنعزيزغالب مؤيد ‍منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا!"

ابن القيم رحمه الله

منذ عامين و 6 شهور
أسية محمود

#تذكر "إنَّ للهِ تعالى عند كلِّ فطرٍ عُتَقاءَ من النارِ، وذلك في كلِّ ليلةٍ".
"سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
سبحان الرب ال‍عزيز يحتاجه العباد في كل شيء، من كل شيء.
سبحانه.. هو صاحب العزة، فإذا أردت العزة فكن معه، إن أردت العزة فلُذ بحماه، إن أردت العزة فاستعذ به.
وعلى الرغم من تكذيب المكذبين!
وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين!
وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية؛ التي جاء بها الرسل؛
فقد باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها.
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله؛ يخلص فيها الجند ويتجرد لها الدعاة.
إنها ‍غالبة ‍منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل.
ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة.
وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله، والذي لا يخلف بالوعد بالنصر والغلبة والتمكين.
#أسأل_الله_تعالى أن يعزَّ ب‍المؤمنين شأنكم، ويقَوِيَ -في الكافرين- بأسُكم، ويوالى الله بكم في ذلةٍ وليه، ويعادى بكم في عزةٍ عدوه.

منذ 3 أعوام
أسية محمود

من نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد..

يقول ابن القيم رحمه الله:

وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل.. قال تعالى: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد".ُ
وقال: "فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ".

فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد؛ ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوه عليه؛ فإنما هي بذنوبه.. إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.

وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: "وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا".

ويجيب عنه كثير منهم.. بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الآخرة.

ويجيب آخرون.. بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الحجة.

والتحقيق : أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل..

فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم..

فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى.

ف‍المؤمنعزيز، ‍غالب، مؤيد، ‍منصور، مكفي، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها.

منذ 7 أعوام و 3 شهور
محمد عبده

سأل متحسرا : أين المفر ؟! و إلى أي وجهة نسير ؟!
قلتُ: إلى عزٍّ و تمكين .. على جسر من البلاء و النَّصَب.. { ليميز الله الخبيث من الطيب } .. { و ليمحص الله الذين ءامنوا و يمحق الكافرين . }
قال الله { و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ♢ إنهم لهم ال‍منصورون ♢ و إن جندنا لهم ال‍غالبون }
و قال الله { و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن اﻷرض يرثها عبادي الصالحون }
و قال الله { كتب الله ﻷغلبن أنا و رسلي إن الله قوي ‍عزيز }
و قال الله { و كان حقاً علينا نصر ‍المؤمنين }
و قال الله { إنا لننصر رسلنا و الذين ءامنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم اﻷشهاد }
و قال الله { وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في اﻷرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً }
ماذا بعد وعد الله يا قوم ؟!
نعم لم نستكمل ما يجعلنا حقيقين بذلك .. و لكن البلايا مرايا في المُدلهِمَّات .

منذ 7 أعوام و 6 شهور
محمد عبده

سأل متحسرا : أين المفر ؟! و إلى أي جهة نسير ؟!
قلت: إلى عز و تمكين .. على جسر من البلاء .. { ليميز الله الخبيث من الطيب } .. { و ليمحص الله الذين ءامنوا و يمحق الكافرين . }

قال الله { و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ♢ إنهم لهم ال‍منصورون ♢ و إن جندنا لهم ال‍غالبون }

و قال الله { و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن اﻷرض يرثها عبادي الصالحون }

و قال الله { كتب الله ﻷغلبن أنا و رسلي إن الله قوي ‍عزيز }

و قال الله { و كان حقاً علينا نصر ‍المؤمنين }

و قال الله { إنا لننصر رسلنا و الذين ءامنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم اﻷشهاد }

و قال الله { وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في اﻷرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً }

ماذا بعد وعد الله يا قوم ؟!

منذ 8 أعوام و 6 شهور
قيس الخياري

س / هل تُعرض على العامّي تفاصيل الاعتقاد أو يُسأل عنها مثل أن يُقال له : ( أين الله ؟ ) ؟

ج / أمّا التّفاصيل غير المقطوع بها ـ وهي الأكثر ـ فلا تُعرض على العوامّ في أكثر الأحيان، وإنّما يُكتفى بتعليمهم المجملات من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، والأصل في هذا هو حديث مجيئ جبريل يسأل عن الإيمان فلخّصه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للصّحابة في أصولة السّتّة مجملة ، ولذا قال الحافظ في "الفتح" : (1/118) : " ودلّ الإجمال في الملائكة والكتب والرّسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل إلا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التّعيين ...".
وأمّا أدلّة منع العوامّ من الخوض في كثير من تفاصيل الاعتقادات فيمكن تلخيصها في :

1 ـ عدم الدّليل القاطع الدّالّ على قول فصل في كثير من التّفاصيل، والإيمان في باب الاعتقاد يجزئ بالعلم بالقطعيّات المعلومات بالضّرورة سيّما للعوامّ ؛ فإنّه يسعهم الجهل بما دونها من الظنّيّات المعلومة بالنّظر والاستدلال، والتّفاصيل هي في الأغلب من هذه الظّنّيّات لا من القطعيّات.

2 ـ ثمّ عدم حاجة العوامّ للتّعرّض للتّفاصيل في ال‍غالب؛ إذ غاية ذلك حصول تصوّرات لا يُبنى عليها عمل ولا زيادة إيمان بل أكثرها ممّا لا تستوعبها عقولهم فتكون فتنة على بعضهم، ولهذا أنكر مالك رحمه الله سؤال من سأله عن معنى الاستواء على العرش بخلاف الأمور الفقهيّة العمليّة الّتي يُحتاج إلى العلم بتفاصيلها لأنّ الأعمال مأمورٌ بها على وجوه مخصوصة مفصّلة كالصّلاة والحجّ ونحو ذلك ...
ولهذا أخرج الهروي في "ذمّ الكلام" عن أشهب بن عبد ال‍عزيز قال: سمعت مالكاً يقول: إيّاكم والبدع، قيل يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلّمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عمّا سكت عنه الصّحابة والتّابعون لهم بإحسان.
وأخرج ابن عبد البرّ عن مصعب بن عبد الله الزّبيري قال: " كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدّين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكلّ ما أشبه ذلك، ولا يحبّ الكلام إلا فيما تحته عمل، فأمّا الكلام في دين الله وفي الله عزّ وجلّ فالسّكوت أحَبُّ إليَّ لأنّي رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدّين إلّا فيما تحته عمل".

3 ـ ثمّ عدم درك العوامّ للحدّ الفاصل بين ما يسوغ فيه الخلاف من تلك التّفاصيل وبين ما يُجزم فيه منها بقول واحد ؛ فإنّ معرفة موارد الخلاف والاتّفاق قاصرة على العلماء ، ومن ثَمّ فهم الّذين يسوّغون الخلاف في مسائل الخلاف ، فيكون خلافهم فيها رحمة بخلاف العوامّ ؛ فإنّهم لعدم علمهم ومعرفتهم يتخرّصون ويتحمّسون فيُلحقون كثيرًا منها بمسائل الاتّفاق والعكس، فيتولّد عن ذلك بينهم من الإنكار والتّشديد وربّما من العداوة والبغضاء وربّما من التّهارج والاقتتال ما لم يأذن به الله بل ما اتّفقت الشرائع على النّهي عنه أشدّ النّهي.
فإذا كان الأمر مبنيّا على التّخرّص والمجازفة مع ما يؤول إليه من حصول الضّرر والمفسدة مع انتفاء الحاجة منه والمصلحة مع إجزاء الإيمان بدونه كما تقدّم : فإنّ ذلك يجعل الخوض في التّفاصيل من أوجب ما يُنهى عنه في دين الله في أكثر الأحيان.

قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (12/237) : " الواجب أمر العامّة بالجُمل الثابتة بالنصّ والإجماع، ومنعهم من الخوض في التّفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله".
وقال أيضًا (6/57) : "القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمل ; وهو = الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره . وأما الأعمال الواجبة : فلا بدّ من معرفتها على التّفصيل ; لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصّلة ; ولهذا تقرّ الأمّة من يفصّلها على الإطلاق وهم الفقهاء..للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة".
وقال أيضًا (6/56) : " وأما جمهور الفقهاء المحقّقين والصّوفيّة فعندهم أن الأعمال أهمّ وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها ; فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها وكثيرا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة ".
وقال أيضًا (6/59) : "المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد وقد تجب في حال دون حال وعلى قوم دون قوم ; وقد تكون مستحبة غير واجبة وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء".
وقد تكون معرفتها مضرّة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها كما قال علي رضي الله عنه: ( حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ; أتحبون أن يكذب الله ورسوله ) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ( ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ) .
قال ابن تيمية أيضًا (3/329) : "ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة ، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل".
وقال : "وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ; ولم يمكنه العلم بذلك ; فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصّلا وهو داخل في إقراره بالمجمل العام".
وقال الغزاليّ في "الإحياء" (1/58) : " وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه ومن غير تأويل وحسن مع ذلك سريرته ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده بل ينبغي أن يخلى وحرفته فإنه لو ذكر له تأويلات الظاهر اتحل عنه قيد العوام ولم يتيسر قيده بقيد الخوض فيرتفع عنه السد الذي بينه وبين المعاصي وينقلب شيطاناً مريداً بهلك نفسه وغيره بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة بل يقتصر معهم على تعليم العبادات وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار كما نطق به القرآن ولا يحرك عليهم شبهة فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك وبالجملة لا ينبغي أن يفتح للعوام باب البحث فإنه يعطل عليهم صناعاتهم التي بها قوام الخلق ودوام عيش الخواص" اهـ
وقال الغزاليّ أيضًا في "الرّسالة الوعظيّة" : " وليس عليه بحثٌ عن حقيقة هذه الصفات. وأن الكلام والعلم وغيرهما، قديم أو حادث، بل لو لم تخطر هذه المسألة حتى مات مؤمنا وليس عليه تعلم الأدلة التي حررها المتكلمون. بل كلما حصل في قلبه التصديق بالحق بمجرد الإيمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن. ولم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق".
وقال في رسالته "إلجام العوام" ص74 : "ﻓﻜﻴﻑ ﺴﺒﻴل ﺍﻟﺠﻭﺍﺏ ﺇﺫﺍ ﺴﺌل ﻋﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻤﺴﺎﺌل ؟ ﻗﻠﻨﺎ : ﺍﻟﺠﻭﺍﺏ ﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻤﺎﻟﻙ ﺭﻀـﻲ ﷲ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻻﺴﺘﻭﺍﺀ ﺇﺫ ﻗﺎل : ﺍﻻﺴﺘﻭﺍﺀ ﻤﻌﻠﻭﻡ – ﻭﺍﻹﻴﻤﺎﻥ ﺒﻪ ﻭﺍﺠﺏ ﻭﺍﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻤﺠﻬﻭﻟﺔ ، ﻭﺍﻟﺴـﺅﺍل ﻋﻨﻪ بـﺩﻋـة ، ﻓﻴﺫﻜﺭ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﺠﻭﺍﺏ ﻓﻲ ﻜل ﻤﺴﺄﻟﺔ ﺴﺌل ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻌﻭﺍﻡ ﻟﻴﻨﺤﺴﻡ ﺴﺒﻴل ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ ".
وقال ص 70 : " وذلك واجب على العوام لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلا له، فإن سأل جاهلا زاده جوابه جهلا وربما ورطه فى الكفر من حيث لايشعر، وإن سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه ... فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التى ليست من قبيل معرفة الله عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية عجز كافة المعرضين عن الصناعات عن فهمها ... وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة كما كان يفعله عمر رضى الله عنه بكل من سأل عن الآيات المتشابهات، وكما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإنكار على قوم خاضوا فى مسألة القدر وسألوا عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: فبهذا أمرتم؟) وقال ( إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال ) أو لفظ هذا معناه كما اشتهر فى الخبر، ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض فى التأويل والتفصيل".
وقال في "الرّسالة الوعظيّة" : " ومنع الكلام للعوام، يجري مجرى من الصبيان من شاطىء نهر دجلة خوفا من الغرق. ورخصة الأقوياء فيه تضاهي رخصة الماهر في صنعة السّباحة ".

فصل : حول قول الإمام البخاري رحمه الله : (الامتحان في الاعتقاد ابتداع)

قال العلّامة ولد الدّدّو حفظه الله في "سلسلة الأسماء" : "ّ والبخاري رحمه الله قال: (الامتحان في الاعتقاد ابتداع) في قصته مع أهل نيسابور حين كان مع محمد بن يحيى الذهلي فسألوه عن تكلمنا بالقرآن، فأجاب: بأن تكلمنا بالقرآن صفة من صفاتنا وصفاتنا مخلوقة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فشغبوا به فأخبرهم أن الامتحان في الاعتقاد ابتداع وبيّن لهم ذلك، وقد ذكر هذا الحافظ ابن حجر في هدي الساري مقدمة فتح الباري، وذكره الذهبي أيضاً ".

وقال : " وقد نصّ العلماء على أن الامتحان في الاعتقاد وسؤال الناس عن اعتقادهم ونحو ذلك بدعة في الدين، وأنه لا يحل إلا في موضعين:

أحدهما: من جاء من قبل الكفار هارباً فدخل إلى دار الإسلام، فيحل امتحانه ليعرف هل هو جاسوس للكافرين أو ليس كذلك، وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] .

الثاني: من كان مظنة الكفر ويراد عتقه، حيث يشترط الإيمان في الرقبة التي تعتق، فيحل امتحانها حينئذٍ حتى يعلم الإنسان إيمانها، وبشرط ألا تكون في الأصل من دار الإسلام، بأن كانت نسيبة من دار الكفر، أما من كان في دار الإسلام فلا يسأل من أجل العتق هل هو مؤمن أم لا، بل هذا من الابتداع )) .

وقال في "شرح كتاب التّوحيد" : " من كان رقيقا على الكفر أو من كان على الكفر فاسترق فأراد مسلم أن يعتقه حيث يشترط الإيمان في عتق الرقبة فحينئذ لا بد من امتحانه لأنه قد كان من أهل الكفر حتى يعلم هل دخل الإسلام لأنه لا يجزئ عتق رقبة غير مؤمنة في المواضع التي اشترط فيها الإيمان في الرقبة، ودليل ذلك حديث الأنصاري الذي كان عليه عتق رقبة فجاء بجارية له فعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فقال: أين الله فأشارت بإصبعها إلى السماء، ثم قال: من أنا؟ فقالت رسول الله، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة، فهنا امتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصل التوحيد، وأراد بذلك أنها كانت على الكفر، وأن الأنصاري يجب عليه عتق رقبة مؤمنة كما شرط الله الإيمان فيها، وإنما يمكن التحقق من ذلك بهذا الامتحان، وقد خفي هذا على كثير من عوام المسلمين فأصبحوا يمتحنون من لا يريدون عتقه من المسلمين، يمتحنون كثيرا من الأحرار بسؤالهم أين الله؟ ولا يقولون: من أنا، فلذلك لا بد من التنبيه على هذه المسألة لشيوع الخطإ والغلط فيها " .

وقال في "سلسلة الأسماء" : " ومن هنا يغلط كثير من الناس فيظن أن الامتحان بالإيمان إنما هو في صفة الفوقية، بل الإيمان يحصل حتى لو جهل الإنسان بعض صفات الله سبحانه وتعالى، ولا يجب الإيمان بها تفصيلاً، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لها: (من أنا؟) فهذا لا يقتضي إلا سؤالها عن الإيمان برسالته فقط ؛ لذلك قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ، ومن هنا قال البخاري رحمه الله: (الامتحان في الاعتقاد ابتداع) " .

س / ما معنى قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للجارية : ( أَيْنَ اللَّهُ ؟ ) قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، وهل يدلّ هذا الحديث على علوّ الله تعالى على خلقه بذاته ؟

ج / الرّاجح هو إثبات فوقيّة الله تعالى وعلوّه على خلقه حقيقةً لمجموع الأدلّة على ذلك مع عدم المانع من الإثبات لعدم اقتضائه التّكييف والتّمثيل ، لكن حديث الجارية ليس فيه دليلٌ على ذلك الإثبات ولا نفيه ولا هو نصٌّ في محلّ النّزاع، فما ورد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم" قَالَ لها : ( أَيْنَ اللَّهُ ؟ ) قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، قَالَ : مَنْ أَنَا ، قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" هو حديث صحيح له طرق متعدّدة بعضها عند مسلم في "صحيحه" ، لكن لم يتّفق الرّواة على لفظَي السّؤال والجواب فيه ؛ فقد جاء في بعض الرّوايات هكذا، وجاء في بعضها : قال : ( من ربّك؟ ) قالت: " الله"، وفي أخرى قالت: "في السّماء"، وفي أخرى : "فأشارت إلى السّماء" ، وفي أخرى قال : ( فمن الله؟ ) قالت: الّذي في السّماء، وفي أخرى: ( تشهدين أن لا إله إلا الله؟ ) قالت: نعم ... وهذه الرّوايات محتملة، والاختلاف الواقع بين ألفاظها ـ مع كون الحادثة واحدة ـ هو من تصرّف الرّواة وروايتهم للحديث بـالـمـعـنـى، ولا يُمكن الجزم ههنا بمطابقة لفظ بعضهم للّفظ المتلفّظ به في واقع القصّة ـ دون بعض، وإنّما الّذي يتوجّب هو توجيه النّظر إلى القدر المشترك من ذلك الـمـعـنـى، فيكون هو المقصود من السّؤال وجوابه، والسّياق والأصول يدلّان أنّ المقصود كان السّؤال عن مجمل شهادتها لله بالتّوحيد ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالرّسالة؛ ولذا اتّفقوا في لفظ السّؤال الآخر أنّه قال : ( من أنا؟ ) فقالت: أنت رسول الله، وذلك أنّ سبب السّؤالين كان معرفة المجمل من إيمانها لقول سيّدها في بعض الرّوايات : "يا رسول الله إنّ عليَّ رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة فأعتقها" ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم عقب ذلك : ( أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ) ، ومعلومٌ أنّ إيمان الشّخص إنّما يُعرف بإقراره بالشّهادتين، كما في الحديث المتواتر : "أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله" وغيره ، فليس السّبيل في ذلك هو امتحان النّاس في إثباتهم العلوّ الذّاتيّ ولا في نفيه، ولا هو في امتحانهم بشيء من تفاصيل الإيمان، والدّليل أنّ مسألة العلوّ الذّاتيّ من التّفاصيل أنْ لو قال مشركٌ " الله في السّماء" : لم يُحكم بإسلامه بمجرّد ذلك، وهو لو نطق بالشّهادتين ولم يقصد إثبات العلوّ الذّاتيّ لله : يُحكم بإسلامه ولو عند المُثبت، فلزم ذلك المُثبت أن يفهم أنّ محلّ الاختبار في هذا الحديث هو مجمل الإيمان والشّهادتين من حيث المعنى حتّى لو رجّح أنّ السّؤال إنّما حصل عن المكان لفظًا، فإنّ العبرة هي بالحقائق والمعاني لا بمجرّد الألفاظ والمباني، والله تعالى أعلم.

س / هل الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة في الاعتقاد هو خلاف لفظيّ أم حقيقيّ ؟

ج / أكثر الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة = لفظي؛ ومن ذلك في علوّ الله ؛ فالأشاعرة ينفون الجهة والمكان ويقصدون الجهة المخلوقة والمكان المخلوق إذ لازمهما تحيز باطل لكون ذلك من صفات الحوادث ، والحنابلة يثبتون جهة غير مخلوقة ومكانا غير مخلوق إذ اللازم تحيّز حق وهو الانحياز والبينونة من الخلق .

س / ما وجه تشدّد متأخّري الأشعريّة في نفي المكان عن الله ؟ وما شبهتهم في النّفي؟ وإذا سقطت شبهة النّفي هل يترجّح الإثبات ؟

ج / نفيه نفاة المكان من أهل السّنّة قصدوا نفي مكان مخلوق أي نفي الحدوث، مع إثبات جنس الصّفات كالعلوّ المعنويّ ونحوه، ومثبتو المكان منهم قصدوا إثبات مكان غير مخلوق وهو علو الله تعالى بذاته، وهذا هو الرّاجح من القولين فإن علو الله قائم بذاته كما أن سمعه قائم بذاته وكذا بصره وعلمه وسائر صفاته فلا وجه لنفيها من جهة تعلقها بالذات إلّا شبهة المعتزلة القائلين بأن تعلقها بالذات يقتضي حدوث القديم تعالى، وهذا تناقض وكفر؛ وذلك أن ما يثبته المثبتون صفات متعلقة بما هو حادث كتعلق السمع بالمسموع والبصر بالمُبصَر والكلام بالمخاطب به وهكذا ... فالمسموع وهو الصّوت = حادث له بداية فكيف يكون الله سميعًا بلا بداية؟ والمُبصر وهو الصّورة = حادث له بداية فكيف يكون الله بصيرًا بلا بداية ؟ والمخاطب بالكلام مخلوق فكيف يكون الله متكلّمًا بلا بداية؟ فكذا هنا قالوا : العلوّ يكون بالمقارنة بمن هو أسفل، وما هو أسفل = مخلوق؛ فكيف يكون الله عاليًا بلا بداية؟ فألجاهم ذلك إلى القول بأن معاني الصّفات حادثة كالسّمع والبصر والكلام والعلوّ مخلطين بين الصفة ومقتضاها، والصواب هو التفريق بين الأمرين؛ فإنّ رحمة الله مثلا أمر متعلّق بذاته، وليست هي آثار الرّحمة نفسها كالمطر، ولهذا قال تعالى : (( فانظر إلى آثار رحمة الله )) فالصّفات قديمة في نوعها ، والحادث هو مقتضاها فإنّه يتجدّد بحسب مشيئة الله، وعليه فهو تعالى عليم قبل المعلومات سميع قبل المسموعات بصير قبل المبصرات متكلّم قبل خلق المخاطبين وهكذا وهذا من حيث نوع الصفة، وأمّا التجدّد والحدوث فهو في متعلق الصّفة وهو المعلوم نفسه والمسموع نفسه والمبصر نفسه والمخاطَب نفسه، فكذا استواؤه تعالى على العرش، فإنّ الراجح أن ذلك بمعنى العلوّ الذّاتي لأنّه لا يلزم من علوه تعالى انتقال ولا حدوث وإنما الحدوث للعرش نفسه فإنّه حادث مخلوق، فسقطت شبهة نفي العلوّ الذّاتي.

فإن قيل : إذا سقطت شبهة النّفي بقي الأمر محتملا للنّفي والإثبات كليهما ، فكيف ترجّحون الإثبات؟

يُجاب : بوجود الأدلّة الخبريّة الكثيرة الّتي تفيد ظواهرها الإثبات دون وجود صارف صحيح يُنتقل به إلى التّأويل إلّا أوهامًا في العقل يُتخيّل معها القياس على المخلوق ونحو ذلك ممّا ينفيه المثبت فيسلم له الإثبات.

س / ألا يقتضي القول بأنّ الله قد خلق العالم في زمان معيّن أن يكون الزّمان سابقًا على الخلق والحدوث فيكون الزّمان مثله تعالى قديمًا، وذلك يقتضي القول بتعدّد القدماء ؟

ج / أمّا نوع صفة الخلق : فالله تعالى متّصف بذلك وبسائر صفاته أزلاً بلا بداية فإن صفاته تعالى كلّها قديمة النّوع كما تقدّم، وأمّا تعلّق الصّفة بآثارها فهذا يكون في زمان مخلوق؛ فخلق الله للخلق في زمان:
إن عُني بالزّمان فيه = الزّمان المخلوق الّذي نعلمه بالقياس العقليّ ونستدلّ عليه بالحركة والسّكون؛ فالله تعالى قد خلق الخلق والزّمان مقترنين لا يتقدّم أحدهما عن الآخر لأنّ كليهما محدث لا قديم، إذ القديم لا يُسبق بغيره.
و إن عُني بالزّمان فيه = الأزل وما لا بداية؛ فهذا الزّمان سابق للخلق وللزّمان المخلوق المقترنين، فالزّمان الّذي ليس بمخلوق = صفة لذاته؛ وهي صفة أوّليّته وقِدمه.

وأصل الإشكال في مثل هذا ناشئ عن عدم تصوّر زمان خير مخلوق كما ينفي النّافي المكان عن الله وعلوّه تعالى على خلقه لعدم تصوّره مكانًا غير مخلوق، وأمّا من أثبت المكان الّذي ليس بمخلوق ـ وهو العلوّ ـ والزّمان الّذي ليس بمخلوق ـ وهو القِدم ـ فيكون قوله هذا بهذا الاعتبار = سالمًا من المعارضة والتّناقض.

وبيان هذا فيمن لا يتصوّر زمنًا إلّا زمنًا غير مخلوق أنّه يتصوّر الزّمان المخلوق موجودًا قبل تمام خلق الله للخلق؛ فهذا إن قال : أنّ الزّمان محدث مخلوق، كان متناقضًا لأنّه يقتضي أنّ الخلق سابق للزّمان أيضًا.
وإن قال أنّ الزّمان قديم ووجوده ذاتيّ ، أدّى ذلك إلى الشّرك والقول بتعدّد القدماء، ولا ينجو من ذلك إلّا من جعل الزّمان من صفاته ، وهو أوّليّته تعالى وقِدَمه على التّفصيل السّابق في وحدة الموصوف وصفاته وتغايرهما.

والضّلال في هذا الباب هو إمّا في إثبات الأزل ـ الّذي هو الزّمان القديم ـ دون جعله من صفات البارئ تعالى؛ فهذا يتناقض من يقوله وهو يثبت وجود خالق واحد قديم، فمآل قوله ذلك هو الشّرك والقول بتعدّد القدماء، وهو اللاّزم الّذي فرّ منه أمثال المعتزلة فوقعوا فيه، وكذا يتناقض من يقوله وهو ينفي وجود خالق قديم لأنّ قوله يقتضي أنّ الزّمان هو الخالق القديم كما يقوله الدّهريّون والملاحدة ...

والمقصود هو أن الله تعالى خلق العالم ولم يكن قبل ذلك زمان مخلوق، وإنّما كان القديم بصفاته ولا خلق؛ أعني لا أثر حينها للمخلوقات وإن كان من صفاته القديمة الخلق أيضًا فإنّ القديم هو نوع صفة الخلق لا أثرها في الواقع كما هو الأمر في سائر الصّفات أيضًا؛ ولذا جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) وفي لفظ : ( ولم يكن شيء غيره ) وفي لفظ : ( ولم يكن شيء معه ، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض ) وفي لفظ : ( ثم خلق السّموات والأرض).

س / هل الاسم هو المسمّى أو غيره ؟

ج / التحقيق هو أنّ الاسم من حيث اللّفظ غير المسمّى كما عند النّحاة ، فإنّ موضوعهم الألفاظ ، واللفظ والذّات متغايران قطعا ، وأمّا من حيث معناه كما هو النّظر إليه عند غيرهم فيقتضي أنّه عين المسمّى في الخارج وهو غيره في الذّهن لدلالته على الذّات مع ما يُفهم من معناه من مدح أو ذمّ ، وهي الصّفات.

وعليه فثبوت كون الصفة غير الموصوف هو باعتبار العلم الذي هو ما في الذهن فقط ، وثبوت كون الصفة هي الموصوف هو باعتيار نفس الأمر وهو المعلوم نفسه ، فإن الصفة إنّما تقوم في الخارج بغيرها لا بذاتها ، وغيرها هو الموصوف نفسه.

س / علامَ بنى نفاة الصّفات من المعتزلة وغيرهم قولهم بمطلق النّفي؟ وكيف الردّ عليهم ؟

ج / نفاة الصّفات ينفونها لمقدّمة أولى وهي كون : ( الصّفة هي عين الموصوف والاسم هو ذات المسمّى ) عندهم، ومعلوم أنّ الموصوف المسمّى ههنا واحد لا شريك له تعالى فوجب أن لا يكون لأسمائه وصفاته معان متعدّدة وأنّها فقط أعلام على الذّات.

وأصل هذه المقدّمة هو من تخليطهم بين ما في الذّهن وما في الخارج، فإنّ الصّفة هي عين الموصوف والاسم هو المسمّى نعم، لكن محلّ ذلك الخارج والواقع الّذي لا ينفكّ فيه هذا عن هذا، وأمّا الكلام في هذا المقام فهو عمّا ينبغي أن يقع في الذّهن وفي علم المكلّف لا عن الواقع نفسه وما في الخارج.

ولذا فإن قيل: هل الصفات هي الموصوف أو غيره؟ قيل : التّغاير فيه إجمال ، فإن أريد بالغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدم الآخر، فالصفة هي الموصوف، وإن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فالصفة غير الموصوف.

وعليه فثبوت كون الصفة غير الموصوف هو باعتبار العلم الذي هو ما في الذهن ، وثبوت كون الصفة هي الموصوف هو باعتيار نفس الأمر وهو المعلوم نفسه، فإن الصفة إنّما تقوم في الخارج بغيرها لا بذاتها، وغيرها هو الموصوف نفسه، فانتفى التعدّد في الخارج كما هو واضح.

لكنّ هؤلاء النّفاة تنكّبوا القول بهذا التفريق مع وضوحه لأجل مقدّمة سابقة على هذه، وهي : ( بطلان تعلّق الصّفات بالحوادث )؛ وذلك أنّ الصّفات المقصود إثباتها = قديمة وهذا لا يكون لما هو معلوم من تعلّقها بخلقٍ حادث؛ فإنّه يقتضي أن يكون البارئ تعالى متّصفًا بمثل صفة البصر منذ الأزل مع أنّ المبصرات لا وجود لها حينئذ لأنّها حادثة، وكذا لو كان متّصفا بصفة السّمع لكان كذلك منذ الأزل، وهذا باطل عندهم أيضًا لأنّه إنّما خلق المسموعات بعد ذلك، وكذا قالوا في سائر الصّفات كالكلام والرّحمة أيضًا وغير ذلك من الصّفات أنّ تعلّقها بالحوادث يُبطل كونها صفات لأنّ الصّفات تكون قديمة والمخلوقات لا تكون إلّا حادثة، ومحصّل هذا أنّهم بنوا نفي الصّفات على هذه المقدّمة أيضًا؛ أعني بطلان تعلّق الصّفات بالحوادث لبطلان الحدوث عن الله وبطلان قدم الحوادث.

وهذا المقام قد خلّطوا فيه أيضًا بين الصّفة في ذاتها وبين متعلّقها، فإنّ قدم الصّفة هو قدمها في ذاتها، وذلك لا يلزم منه كون متعلّق الصّفة قديمًا مثلها، ومن ثمّ يبطل ما ألزموا به المثبتة من القول بقدم الحوادث؛ وبيان هذا أنّ متعلّق الصّفة هو أثرها المخلوق لا عين الصّفة؛ إذ الحوادث هي = آثار الصّفات كما قال تعالى : (( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها )) والآثار ليست هي الرّحمة نفسها، ومثل هذا التّفريق يوجب أن يكون القديم من الصّفات = نوعها، وأنّ الحادث = آثارها المتجدّدة؛ وهو معنى قوله تعالى : (( ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث )) فإنّ مثل هذا لا يقتضي أنّ جنس كلامه تعالى مخلوق أيضًا، وإنّما المقصود بكونه محدثًا مخلوقًا = تلاوة التّالي له ونزول جبريل به ونحو ذلك، وهكذا يُقال في صفة البصر أنّه تعالى بصير منذ القدم وقبل المبصرات، فذلك لا يتنافى مع كون المبصرات وجميع المخلوقات هي حوادث مخلوقة لم تكن في الأزل، لما بيّنّاه من الفرق بين ذات الصّفة القديمة وبين آثارها المخلوقة.

ومزيد النّظر يقتضي أيضًا أنّ الّذي يلزم منه القول بقدم الحوادث هو قولهم بنفي قدم الصّفات لا قول مخالفيهم بإثبات ذلك؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى قد قال : ﴿( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )﴾ فيدلّ ذلك أنّ كلّ شيء مخلوق إنّما خُلق بكلمة ( كن ) ، فلو كان كلامه ونحوه من صفاته تعالى مخلوقًا ، لكان خلقَه بـكلمة : ( كن ) ، ومعلوم أنّ كلمة ( كن ) من الكلام أيضًا، فلو كانت هي مخلوقة لكان خلقَها بـكلمة : ( كن ) أخرى قبلها ، ولو كانت ( كن ) التي قبلها مخلوقة لكان خلقَها بـكلمة : ( كن ) أخرى قبلها ... وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له، وما لا نهاية له في القدم = قديم لا حادث، فيكون صفة لله، وإلّا للزمهم القول بقدم الحوادث وتعدّد القدماء (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، وأقدم من رُوي عنه إلزامهم بهذا = هو البويطي صاحب الشافعيّ ؛ قال الربيع : سمعت البويطي يقول : إنما خلق الله كل شيء بكن ، فإن كانت كن مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقا . ثمّ تتابع الأئمّة على ذكر هذا الدّليل مثل البيهقي في "الاعتقاد" واللالكائي في "السنّة" وغيرهم...

س : كيف نجمع بين أحاديث نزول الله للسّماء الدّنيا في ثلث اللّيل وبين كون الليل يكون نهارًا في مناطق أخرى من العالم ؟

ج : نزول الله عزّ وجلّ إلى السّماء الدّنيا لا يُقاس بنزول المخلوق من علو إلى سفل ، فإنّ النّزول وسائر ما أثبت سبحانه لنفسه من الصّفات والأفعال ممّا لا تستوعب العقول كيفيته بل مهما وقع ببالك فالله بخلاف ذلك ؛ ( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ) ، وأيضًا فنزول المخلوق وسائر أفعاله هو ما يخضع لحدود المكان والزّمان ، أمّا الله عزّ وجلّ فهو خالق المكان والزّمان ؛ ( لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء ) ، وقد خلق الأزمنة والأمكنة وما يحصل بها من النُظم والأسباب التي تُلائم حاجات عباده وليعلموا ( عدد السّنين والحساب ) وهم الخاضعون لقوانينها دونه ، فالذي يستحيل نزوله في أوقات متفاوتة هو المخلوق لإحاطة الزّمان والمكان به ، وأمّا الخالق فإنّه بكلّ شيء محيط ونزوله خاصّ ليس كنزولهم ؛ ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ... ) ، وهو تعالى أعلى وأعلم .

س / ما هو الصّواب في تفسير استواء الله تعالى على العرش ؟

ج / استواء الله تعالى على العرش هو من المتشابهات التي قال تعالى : (( هُوَ الَذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ...)) [آل عمران 7 ] .

و(المحكم) و(المتشابه) في قوله: (( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ )) لكلّ منهما معنى عامّ وآخر خاصّ :

* فـ (المحكم) باعتبار عامٍّ ، معناه = المتقن ذو الكمال في نظمه ومبانيه ومعانيه ـ وبهذا وصف الله جميع القرءان فقال : (( يس والقرءان الحكيم )) ، (( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ )) .

ـ و(المتشابه) باعتبار عامّ أيضًا، معناه = المتناسق دون اختلاف بين معانيه، وهذه أيضا صفة لجميع القرءان كما قال تعالى: (( كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِي...))، (( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا )) .

فـالقرآن بهذا الاعتبار العامّ كلّه محكم وكلّه متشابه.

* وأمّا باعتبار آخر خاصّ فالقرآن منه محكم ، ومنه متشابه كما قال تعالى (( منه آيات محكمات هن أمّ الكتاب )) أي أكثره محكم (( وأخر متشابهات)) :

والمراد من الإحكام بالاعتبار الخاصّ هنا = جلاء المعنى دون التباس على أحد ممّن يعرف اللّغة والشّرع، وهذا صفة أكثر آيات القرآن لا جميعها، فالإحكام الخاصّ هو في مثل قوله تعالى : (( فاعلم أنّه لا إله إلّا الله )) ، وقوله: (( محمّد رسول الله )) ، وقوله في وجوب الصّلاة : (( وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة )) وفي إباحة البيع وتحريم الرّبا : (( وأحلّ الله البيع وحرّم الرّبا )) ونحو ذلك ممّا هو جليّ المعنى يشترك في العلم به كلّ أهل اللّغة والشّرع .

أمّا التّشابه بالاعتبار الخاصّ فالمراد به أنّ بعض الآيات تحتمل في فهمها معان وأنّ المعنى الصّواب منها ليس جليّا للجميع وإنّما يعرفه الرّاسخون في العلم ، كما قال النّبيّ ﷺ : " إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" ، فمثال هذا في الأحكام : البيوع المختلف في جوازها وتحريمها وكذا تفاصيل ما يدخل في الرّبا المحرّم ممّا لا يدخل، ومثاله في الأخبار :

قوله تعالى : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) : فهذا ممّا يُختلف في تفسيره:

ـ ففريق أوّل من أهل السنّة جمع بين الإثبات والنّفي فقال: الاستواء ههنا على ظاهره، فهو بمعنى العلوّ الحقيقيّ والارتفاع لكن ليس هو كعلوّ المخلوق وارتفاعه؛ فلا يلزم من إثباته إثبات ما قد يتوهمه العقل من الحركة والانتقال والمبارحة لمكان والحلول في مكان آخر مخلوق ... فإنّ ذلك هو صفة علو المخلوق وارتفاعه،وأمّا علوّ الخالق فليس بهذه الكيفيّة لأنّه تعالى (( ليس كمثله شيء ))، فالكيف في استوائه تعالى مجهول لا يقدر العقل على تصوّره، ولهذا قال الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ... ونحو ذلك قال شيخه ربيعة وغيرهما من الرّاسخين :

ـ " الاستواء غير مجهول " أي : ليس معناه خفيّا، إذ معناه العلوّ، فهو استواء حقيقيّ لائق بالله، وهو من صفات كماله وعظمته.

ـ و"الكيف غير معقول" أي : كُـنْـه هذه الصّفة في ذاتها لا يحيط بها العقل (فالكيفيّة مجهولة للجميع حتى الرّاسخون في العلم يجهلون كيف استوى على العرش، وهذا من عظمة الله أنّ العقول لا تطيق معرفة كنه صفاته تعالى ولا تقدر على استيعاب ذات الصّفة، ومهما وقع ببالك فالله بخلاف ذلك) .

فالمعلوم هو : المعاني الحقيقيّة ؛ وهي صفات الكمال، والمجهول هو : الكنه والكيف ونفس تلك الصّفات في الواقع ... فتكون مثل هذه الأخبار ـ على هذا القول ـ محكمة من وجه ومتشابهة من وجه؛ فهي من جهة المعنى الحقيقيّ محكمة لدى الرّاسخين لوضوح معناها عندهم، وهذا هو الوجه في قراءة الوصل في قوله تعالى في المتشابهات : (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم)) ، وهي من جهة الكنه والكيف متشابهة لدى الجميع إلّا الله، وهو وجه الوقف على قوله تعالى : (( وما يعلم تأويله إلا الله )) ...

وقيل : المتشابه في هذه الأخبار هو المعنى أصلًا، والقائلون بهذا فريقان :

ـ فريق استعصم بالتّوقّف والتّفويض وتعلّق لتقرير مذهبه بقراءة الوقف في : (( وما يعلم تأويله إلا الله))، فيكون تفسير آيات الاستواء على قولهم : لا يعلم معنى الاستواء إلّا الله تعالى، والرّاسخون في العلم يفوّضون ذلك المعنى؛ (( يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا )).

ورُدّ هذا القول بأنّه يُستبعد أن يُخاطب الله عباده بما لا يفهمون فإنّه تعالى قد أمر بتدبّر كلامه، والغاية من الكلام أصلًا هو الإفهام، فخطابه إيّاهم بما لا يُفهم عبث يتنزّه عنه، ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأنّ الأمر بالتّدبّر عامّ يقبل التّخصيص، وأمّا العبث فالقصد العامّ من المتشابهات على هذا هو الابتلاء بها ليُعلم مَن يفوّض أمر تفسيرها إلى الله ممّن يتّبعها ابتغاء تأويلها فيتكلّف تفسيرها تكلّفًا، ويتعصّب لقوله ابتغاء الفتنة والتّفريق بين الأمّة، فقصدُ الابتلاء بهذا قصدٌ صحيحٌ يدفع الإلزام بالعبث إذ محلّ العبث في الخطاب أن لا يوجد من ورائه قصدٌ صحيحٌ أصلًا، لا ما يوجد فيه قصدٌ عامّ معلوم وخاصّ مجهول، فإنّ هذا يكون كقول جماعة من الفريق الأوّل في الحروف المقطّعة أوائل السّور أنّ معناها العامّ هو الإعجاز من الربّ سبحانه وتعالى للعرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن فإنّه متألّف من تلك الحروف وغيرها ممّا هو من حروفهم التي يتكلّمون بها، وهم مع ذلك عاجزون أن يأتوا ولو بسورة من مثله،وأمّا المعنى الخاصّ الذي يُعلم فيه سبب ذكر هذه الحروف دون غيرها وسبب ترتيبها فيما بينهما على ذلك النّحو وسبب تفريقها على السّور ذلك التّفريق كذِكْر ( الم) في أوّل البقرة دون ( طسم) مثلا فكلّ ذلك مجهول لا يعلمه إلّا الله تعالى.

ـ وتعلّق فريق آخر بالقراءة التي فيها الوصل في: (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم ))، فصار تفسير الاستواء عندهم: الذي يعلم معنى الاستواء هو الله تعالى والرّاسخون في العلم، فإنّهم يعلمون المعنى المتشابه الذي تشتبه على غيرهم معرفتُه، لكنّه معنى مجازيّ راجع تفسيره إلى ما أثبتوه من الصّفات العقليّة التي منها ( العلوّ المعنويّ ) فيكون ذلك هو معنى ( الاستواء)، ويكون قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) كقوله: (( رفيعُ الدّرجات ذو العرش ))
فالرّفعة والعلوّ هي في الشّأن والدّرجات المعنويّة، وهي الظّهور الذي وصف تعالى به نفسه في قوله (( الظاهر والباطن )) ؛ فكما أنّ البُطنان هو قربُه تعالى الذي هو قربٌ معنويّ بالعلم والإحاطة ، كذا الظّهور هنا هو ظهور معنويّ ؛ وهو ظهور غلبة وقهر ومُلك، ولذلك فسّر كثير منهم ( الاستواء على العرش) بالاستيلاء على معنى أنّ ذكر الاستواء هنا هو لتشبيه الأمر المعنويّ بالأمر الحسّي ّالذي هو من شأن ملوك الأرض حسّا...

وقد رُدّ هذا التّفسير بأنّ الاستيلاء يقتضي المنازعة وعدم الملك قبل ذلك، وهذا باطل، ويدلّ على بطلانه أيضًا ورود حرف ( ثمّ) قبل ( استوى) فيقتضي أنّه صفة فعليّة أمّا العلوّ المعنويّ والقهر والملك فهي صفات ذاتيّة ثابة لله أزلا ...
وجواب هذا أنّ تفسيره بالاستيلاء لا يلزم منه منازعة ولا سبق بعدمِ ملكٍ كما لا يلزم القائلين بحمل الاستواء على حقيقته التي هي الارتفاع أنّه مسبوق بانخفاض قبل ذلك أو مقترن بحلول، وكذا حرف ( ثمّ) هو ممّا يأتي لمجرّد العطف دون إرادة التّرتيب الزّمنيّ : قال الرضيّ في "شرح الكافية" (4/390) :" وقد تجئ (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر، والتدرج في درج الارتقاء ، وذكر ما هو الأولى ، ثم الأولى ؛ من دون اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج ، ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله ، كما في قوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح ، فابتدأ بسيادته ، ثم بسيادة أبيه ، ثم بسيادة جده ، لأن سيادة نفسه أخص ، ثم سيادة الأب ، ثم سيادة الجد، وإن كانت سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه...ّ"

لكنّ النّظر يقتضي أنّ تفسير (الاستواء) بالاستيلاء في هذا الموضع هو قول ضعيف مرجوح لأنّ الحامل عليه هو فرارهم التّشبيه؛ فإنّهم قالوا : لو فُسّر بالعلوّ الحقيقيّ والارتفاع الذّاتيّ لاقتضى انتقالا إلى مكان وتحيّزا إلى جهة وحلولا فيها تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فذلك ممّا يُقطع ببطلانه عقلا ونقلا، فالتجؤوا لصرف المعنى عن ظاهره لوجود ذلك الإشكال، والجواب أنّ حملهم إيّاه على خلاف ظاهره يلزم منه إشكال مثله؛ لأنّ تفسيرهم (الاستواء) بالاستيلاء يقتضي ـ على قاعدتهم في التّصوّر ـ ما تقدّم من وجود منازعة على العرش قبل ذلك بينه وبين غيره من المخلوقين تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فإن قالوا هو استيلاء بلا منازعة قيل لهم : فما الإشكال أن يُقال هو استواء حقيقيّ بلا تحيّز !؟ فكما أنّ قولكم لا إشكال فيه كذا قول الفريق الأوّل لا إشكال فيه وكلاهما قول مُحتمل وسائغٌ ، ولأنّ الذي نفيتم به أصل المعنى هو تصوّرات باطلة في العقل فتكون صوارف باطلة إلى المجاز، ويبقى اللّفظ محتملا للقولين مع القول الثّاني بالتّفويض ...

والتّحقيق هو أنّ ( الاستواء ) يختلف معناه باختلاف القرائن والسّياق الذي يَرِد فيه، ومن ذلك أنّ فعله يكون في سياق لازمًا وفي سياق آخر متعدّيًا إلى مفعول، وهو في حال التّعدية قد يتعدّى بحرف ( إلى ) وقد يتعدّى بحرف ( على )؛ فممّا ورد فيه ( الاستواء ) لازمًا قوله تعالى : (( ولمّا بلغ أشُدَّهُ واسْتَوَى )) فهذا معناه : اكتمل، وقول النّبيّ ﷺ :"استووا" أي استقيموا واعتدلوا ، وممّا ورد فيه متعدّيًا بحرف ( إلى ) قوله تعالى : (( ثمّ استوى إلى السَّماء ))، فهذا الأقرب أن يكون بمعنى قصد، وممّا ورد فيه متعدّيًا بحرف ( على ) قوله تعالى : (( لتستووا على ظهوره )) وقوله : (( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك )) ... فمثل هذا معناه العلوّ، والرّاجح أنّه علوّ حقيقيّ على ما يليق بالله تعالى لأنّه أضيف للذّات, وهو إذا أضيف لله عزّ وجلّ لم يلزم من إثباته إثبات التحيّز والانتقال والمماسّة كما يكون ذلك في علوّ المخلوق لبطلان التّمثيل والتّكييف عقلا ونقلا ... وأمّا العلوّ المعنوي فإنّما يُثبت في المواضع التي يُضاف فيها إلى الصّفة أو إلى الذّات مع وجود ما يدلّ أنّ المقصود رجوعه إلى الصّفة كما في قول العرب : استوى الأمير على مملكته، عند دخول العباد في طاعته...

فهذا التّفصيل في تفسير (الاستواء) هو الرّاجح لكن مع سواغ الأقوال الثّلاثة لاحتمال اللّفظ لها ، والّذي لا يسوغ هو نفي معنى الاستواء والعلوّ أصلًا فهذا من الغلوّ في النّفي كقول المعطّلة الذين نفوا أنّه تعالى قد استوى العرش، وهؤلاء منهم من ينفي العلوّ أصلًا كقول الجهميّة النّافين لعموم صفات الله تعالى ولكونه في مكان أصلًا، وهذا خلاف قول طائفة من الأشعريّة أنّه : لا مكان له، وقصدوا بذلك نفي المكان المخلوق لا مطلق المكان، وإلّا لاقتضى نفي وجوده تعالى، وهم مثبتون لذاته وصفاته، ومن غلاة النّفي أيضًا طائفة من الفلاسفة والباطنيّة قالوا : لم يستو ِعلى العرش وإنّما مثلُ هذه الأخبار هي للتّخويف والتّرهيب لا أكثر! وهذا قول باطل قطعًا لأنّه يقتضي التّكذيب بأخبار الله، وكذا قول غلاة المثبتة من أهل التّجسيم الذين فسّروا الاستواء مع التّمثيل والتّكييف خلافًا لمن أثبت المعنى الحفيقيّ مع نفيهما إذ الصّحيح من النّفي هو خصوص نفي ما يستحيل على الله ، وهو الكيف والمِثل، لا أصل المعنى، فالغلاة في جميع الأحوال هم الذين اتّبعوا المتشابه الذي هو أوهام عقليّة استعملوها لردّ المحكم والخروج عن دائرة القطعيّات وما يحتمله اللّفظ ؛ ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الذين يجادلون فيه -وفي لفظ "في آيات الله"- فهم الذين عنى الله، فاحذروهم » وفي لفظ آخر « إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم » ، ومثال هذا ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق اللهُ الخلقَ ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله " ، فقوله ( آمنت بالله) هو من قول الرّاسخين: (( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ...)) ؛ فهذا هو التّفويض المأمور به جميع النّاس؛ أن يكفّوا عن الخوض فيما مقدّمته باطلة من أصلها في العقل، ولهذا جاء بعض ألفاظ الحديث السّابق : "فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" وكذا فيما لا سبيل للعقل إلى إدراكه من التّفاصيل، ولهذا جاء في الخبر: "تتفكروا في آلاء الله ـ أي في نعمه ـ ولا تفكروا في الله" أي في ذاته وكيفيّة صفاته على ما هي عليه فإنّ ذلك مجهول يقصر العقل عن إدراكه، ومن ذلك أيضًا حقائق اليوم الآخر على ماهي عليه؛ قال تعالى : ((فلا تعلم نفس ما أخفي لهم)) ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "، فالمعاني الحقيقية للحور والقصور والفاكهة ولحم الطّير والأنهار معلومة لكلّ من يفهم اللّغة، لكنّ كنْه المخبر عنه مغيّب عنّا ؛ومن ذلك أيضًا أنّ الله تعالى قد أخبر عن الملائكة والجنّ ، والذي نجهله في هذه المخلوقات إنّما هو الكيف، إذ لا نجهل أصل المعنى فهو معلوم وحقيقيّ، لا مجهول ولا مجازيّ، ومثل ذلك الرّاجح في تسبيح المخلوقات التي قال تعالى : (( وإن من شيء إلّا يسبّح بحمدهم ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) هو تسبيح حقيقي، وقيل: هو مجرّد الاستسلام والانقياد لأموامر الله الكونيّة كن فتكون، والرّاجح صحّة هذا لكن لا مانع أن يشمل المعنى أيضا تسبيحا حقيقيا كما يدلّ عليه سماع الصّحابة له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح البخاريّ" من حديث عبدالله بن مسعود أنه قال: "لقد كنا نسمع تسبيح الطعام ، وكذا في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن .

ويترجّح هذا التّفصيل من جهة جمعه لوجهي الوقف والوصل اللّذَين قرأ بكليهما السّلف في قوله تعالى : (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم))، فيكون الوقف على : (( وما يعلم تأويله إلا الله)) مناسبًا لجهل القارئ بكنه ما هو مغيّب عنه وكيفيّته في ذاته، والوصل مناسبًا لعلم الرّاسخين بأصل معاني ذلك، مع جمعه أيضًا لمعنيي ( التأويل) في لسان العرب فإنّه يُطلق ويُراد به :

إمّا 1 ـ تفسير المعنى، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف: (( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ )) [يوسف: 36] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

وإمّا 2 ـ حقيقة ما هو عليه في الواقع ومن ذلك أن يتحقّق إن كان خبرًا كما في قوله تعالى: (( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ )) [الأعراف: 53] أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء .منه أيضًا قول يوسف عليه السّلام: (( هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً )) [يوسف: 100] أو يُمتثل له إن كان أمرًا كما في قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن؛ أي: يمتثل ما أمره الله به في قوله: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً )) [النصر: 1-3].

ولذلك يكون الرّاجح في قوله تعالى: (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا )) [آل عمران 7 ] التّفصيل في معنى ( التّأويل) : فعلى قراءة الوقف عند قوله: (( إِلَّا اللَّهُ ))؛ يكون معنى التأويل المعنى الثاني لأنّ حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها أحدٌ إلا الله عز وجل ، وهي الوجه المتشابه في هذه الأخبار ، وعلى قراءة الوصل يكون معنى التأويل المعنى الأول وهو التفسير ، لأن تفسيره يعلمه الله والرّاسخون في العلم فيعلمون معنى الاستواء أنه العلو ، لكنهم يجهلون هم وغيرهم كيفيته وحقيقته التي هو عليها ... فهذا هو الرّاحج، ولهذا مثّل ابن القيم رحمه الله في"المدارج" (2/403) مراتب اليقين: "بمن أخبرك أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقيناً، ثم ذقت منه.
فالأول: علم اليقين.
والثاني: عين اليقين.
والثالث: حق اليقين.
قال : فعلمُنا الآن بالجنة والنار: علم يقين.
فإذا أزلفت الجنة في الموقف (موقف الحشر) للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين.
فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين"انتهى.
والله تعالى أعلم.

س / ما مذهب السّلف في إثبات الصّفات الخبريّة وتأويلها ؟

ج / جنس إثبات معاني الصّفات الخبريّة هو قول السّلف ونقل فيه جمعٌ الإجماع ، وتحقيق مذهبهم في التفصيل هو الدوران مع السّياق والقرائن لتحديد المراد فيكون معنى اليد في : ( لما خلقت بيديّ ) = صفة كمال على ما يليق بالله ، وفي : ( لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) = مؤوّلة ، وهكذا ...

س / ما هو معنى تقرّب الرّبّ من عبده في قوله تعالى في الحديث القدسيّ : "إذا تقرّب إلي عبدي شبرا تقربت منه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقرّبت منه باعا " ؟

ج / تقرّب الله تعالى ههنا تقرّب بالقبول والإثابة وسرعة الجزاء، وقرينة ذلك كون السّياق سياق مقابلة كما في قوله تعالى : (( ويمكرون ويمكر الله )) و (( يخادعون الله وهو خادعهم )) ونحو ذلك فإنّ المقصود = فعلٌ من قبيل فعلهم على وجه الجزاء عليه فلا يكون ذلك في ذلك الجزاء ظلمٌ ولا يكون فيه ههنا هضم؛ إذ معلوم أنّ فعل العبد هنا هو تقرّبه من ربّه بالطّاعة والعمل ولا جزاء لذلك غير الإثابة والقبول، فلا يقتضي معنى الحديث حقيقة مشي ولا هرولة إلّا أن تكون في نوع من الأعمال كما في قول إبراهيم : (( إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين )) وقول موسى : (( وعجلت إليك ربّ لترضى )) ، فهذا تقرّب خاصّ ولهذا أثبت طائفة ، كابن تيمية ـ أنّ تقرّب الرّب ههنا خاصّ أيضًا وليس هو عموم القبول والإثابة بل تقرّب حقيقيّ يليق به مع القطع بتنزيه الرّبّ عن المشي المعهود والانتقال، وهذا كقول هؤلاء في نزول الرّبّ إلى السّماء الدّنيا أنّه حقيقيّ مع القطع بتنزيه الرّبّ فيه عن الحركة والانتقال المعهود، فإنّ مقصودهم أنّ معنى النّزول زائد على قدر تنزّل ملائكته ورحمته ، فكذا هنا جعلوا تقرّب الرّبّ معنًى زائدًا عل قدر تقرّب القبول والإثابة، والّذي يترجّح لي هو القول الأوّل أعني أنّ التّقرّب هنا هو بمعنى القبول والإثابة فقط بدليل الفعل المقابل وهو تقرّب العبد، فإنّ من أفعال الطّاعة ما ليس فيه حقيقة مشي ولا انتقال، وظاهر هذه أيضًا دخولها في معنى الحديث فيكون تقرّب الله المقابل لها عامّا أيضًا، والأعمّ هو معنى القبول والإثابة، ويقوّيه أنّ ذلك هو المعهود من خطاب الشارع في مثل هذا كما في حديث أبي هريرة الآخر مرفوعًاـ وهو في "الصّحيح" أيضًا ـ : ( ... ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) فإنّه معلوم قطعًا أنّ المقصود النّصر والتّأييد ونحو ذلك من أفعال الجزاء لا حقيقة كونه السّمع والبصر واليد والرّجل ونحو ذلك ، والله تعالى أعلم.

س / ما الفرق بين إثبات اليد على معنى أنّها صفة كمال وتأويلها بالإنعام أو القدرة وهما أيضًا صفتا كمال ؟

ج / المُثبت للمعنى الحقيقي للصّفات الخبريّة بلا تمثيل ولا تكييف في مثل صفة ( اليد ) يجعلها صفة كمال لله تعالى ، فليس معناها عنده القدرة أو النّعمة كما يدّعيه المؤوّل لها ، كما ليس معناها عند المؤوّل هو المعنى الحقيقي الذي يدّعيه المثبت؛ لأنّ حقيقة ( اليد ) عنده هو كونها جارحة ، والله تعالى منزّه عن الجوارح وعن جميع صفات الحوادث .
وجواب المُثبت عن ذلك : بأنّها إنّما تكون جارحة إذا نُسبت للمخلوق ، أمّا كلامنا الآن فعن الخالق .
وعليه فالفرق بين قول المُثبت لليد بلا تكييف ولا تمثيل وبين قول المؤوّل لها ، إذ كلاهما يُثبت أنّها صفة لله وينفي كونها جارحة .
هو : أنّ المؤوّل لا يزيد في الإثبات على أنّها هي ذاتها صفة القدرة أو النّعمة ، والمُثبت يجعلها صفة أخرى غيرهما .

س / هل يسوغ خلاف من أوّل الصّفات الخبريّة أو نفى العذر بالجهل في الشّرك الأكبر أم أنّ القول بذلك بدعة ؟

ج / أمّا القول بتأويل الصّفات الخبريّة فهو سائغٌ ، وأمّا القول بنفي العذر بالجهل في تفاصيل الشّرك الأكبر ؛ فقول شاذّ مبتدع، وبيان ذلك متوقّف على بيان الضّابط الأصوليّ في التّفريق بين الخلاف السّائغ المحتمل، وبين الخلاف غير السّائغ الّذي هو ابتداع في الدّين، وذلك :

أنّ من خلاف العلماء ما تكون الأقوال فيه مبنيّة على أدلّة ظنيّة فيكون قول كلّ منهم اجتهادًا لا يُجزم بمصادفته للحقّ الّذي عند الله ولا بمجانبته له، وهذا كما قال النّبيّ لسعد بن معاذ : " أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" ...
فما يكون هكذا فهو اجتهاد صحيح، يجوز تقليده ولا ينتقض قضاء القاضي به لأنّ الاجتهاد لا ينتقض بمثله.

وأمّا الأقوال الباطلة المبتدعة الّتي لا يجوز تقليدها ، وينتقض قضاء القاضي إذا قضى بها فهي الّتي تُبنى على اجتهاد يُجزم ببطلانه إمّا على وجه القطع أو على وجه يقارب القطع، وسبيل معرفتها أن تُخالف أحد أربعة أصول :

1 ـ النصّ القطعيّ في ثبوته ودلالته .
أو :
2 ـ القياس الجليّ.
أو :
3 ـ القاعدة الكلّيّة لكون دلالتهما قطعيّة أيضًا.
أو :
4 ـ الإجماع المتحقّق الّذي يُجزم بوقوعه إمّا على وجه القطع أو على وجه يقارب القطع، وأمّا الإجماع الّذي لا يبلغ ذلك فهو ظنيّ فيكون صالحًا في الاحتجاج به أو التّرجيح لكنّه لا يكون ضابطًا في معرفة السّواغ؛ فإنّ قصارى الأمر أن يكون حجّة وهي تكون ظنّيّة فيكون القول المبنيّ عليها اجتهادًا وهو لا يُجزم به ولا ينقض ما يخالفه من قول اجتهاديّ آخر، ولهذا ينازع المخالف في وجود ذلك الإجماع بل قد يدّعي أنّ قوله هو الذّي عليه الإجماع كما يتنازع ذلك أمثال الأشعريّة والحنبليّة في القول بتأويل الصّفات ونحو ذلك، وقد يعلم الفقيه المطّلع أنّ الإجماع مع إحدى الطّائفتين لكنّه لا يجزم بذلك جزمًا، ولذلك كان التّحقيق أنّ القولين في ذلك سائغان، بخلاف الأقوال الّتي تناقض الإجماع المتحقّق مثل الإجماع القطعيّ وما يقاربه من الإجماع الظنّيّ الّذي يُجزم به، كالإجماع القديم الّي هو إجماع الصّحابة، وبيان هذا أنّ :

إثبات وقوع الإجماع أمرٌ شاقّ والجزم به مجازفة في ال‍غالب لتعذّر الاستقصاء فيبقى احتمال وجود المخالف قائمًا، ولهذا قال أحمد : "من ادّعى الإجماع فقد كذب وما يدريك لعلهم اختلفوا؟ "، فكان الأصل هو عدم الجزم بالإجماع حتّى يتحقّق، وهو أكثر ما يتحقّق وينضبط في طبقة الصّحابة حتّى ذهب بعضهم إلى حجيّته دون إجماع من بعدهم.
قال الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 383): "جعل الأصفهاني موضع الخلاف في غير إجماع الصحابة, وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع, لا إجماع الصحابة؛ حيث كان المجمعون -وهم العلماء- في قلة, أما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء, فلا مطمع للعلم به. قال: وهو اختيار أحمد، مع قرب عهده به من الصحابة, وقوة حفظه, وشدة اطلاعه على الأمور النقلية. قال : والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبا في الكتب ، ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم ، أو بنقل أهل التواتر إلينا ، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة ، وأما بعدهم فلا ". انتهى

والصّواب أنّ الحجّة تقوم بإجماع مَن بعد الصّحابة أيضًا لكنّها تكون في الأكثر حجّة ظنيّة يسوغ خلافها لحجّة مثلها أو أقوى ؛ قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى" (19/ 267): "والإجماع نوعان قطعي فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعي على خلاف النص وأما الظني فهو الإجماع الإقرارى والاستقرائي بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره فهذا الإجماع وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها فانه لا يجزم بانتفاء المخالف وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية والظني لا يدفع به النص المعلوم لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا والمصيب في نفس الأمر واحد".

فعُلم بهذا أنّ أكثر ما يمكن الجزم بوقوعه ومن ثَمّ الجزم بخطأ مخالفه هو إجماع الصّحابة لما معه من يُسر العلم به والاطّلاع عليه بالنّسبة لغيره من إجماع يُدّعى قي طبقة مَن بعدهم مع فضلهم هم على غيرهم في الفهم والدّيانة وكونهم هم المعنيّون بأهل الإجماع في النّصوص الدّالّة على حجّيّته بالأصالة كقوله تعالى : (( ويتّبع غير سبيل ‍المؤمنين )) وقوله : (( وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا )) ... ونحو ذلك.

ثمّ معلومٌ ههنا أنّ الصّحابة قد سكتوا عن تأويل الصّفات الخبريّة كما سكتوا عن الإثبات، وذلك يجعل القولين بالتّأويل وعدمه محتملين لأنّ سكوتهم ليس بأدلّ على أحد القولين من الآخر فلا يكون دليلا لأحد منهما فضلًا أن يُدّعى أنّه إجماع على أحد القولين ، ولو سُلّم بكونه دالاّ على أحدهما لتفسير بعضهم بعض الألفاظ بما يوافق أحد القولين فغايته أن يكون = إجماعًا سكوتيّا، وهو من أضعف أنواع الإجماع لاحتمال وجود موانع من الكلام مع الاختلاف الشّديد في حجّيّته فكيف يُستعمل مثله مانعًا من سواغ الخلاف مع عدم مخالفة القولين لسائر الأصول القطعيّة ؟!!
وأمّا القول بنفي العذر في الشّرك الأكبر فهو فرع من القول بمطلق التّحسين والتّقبيح العقليين فيكون بدعة ، لأنّه مخالفة في قاعدة كلّيّة تدخل تحتها جزئيّات كثيرة ، فإنّه يتفرّع عن قاعدة التّحسين والتّقبيح العقليين أمثال : القول بعدم صحّة إسلام المقلّد والقول بنفي العذر في الشّرك الأكبر ، والقول بعدم التّوقيف في الأسماء الحسنى، والقول بصحة إسلام الصّبيّ المميّز ونحو ذلك ... ومن هذه الفروع ما يسوغ فيه الخلاف كالثّالث والرّابع بحلاف الأوّلين لأنّه يدخل تحت كلّ منهما هما أيضًا جزئيّات كثيرة مع مناقضتهما قاعدة كلّيّة أخرى كالقول بعدم صحّة إسلام المقلّد فإنّه يناقض قاعدة قبول إسلام من نطق بالشّهادتين والتزم شرائع الإسلام ونحو ذلك كما يناقضها القول نفي العذر بالجهل في تفاصيل معنى الشّهادتين، مع مخالفة هذين القولين للإجماع القديم المعروف من تصرّفات الصّحابة بعموم استصحابهم أصل الإسلام ومطلق استعمالهم للشّروط والموانع ـ ومنها الجهل ـ قبل الحكم بالردّة.

قال الشاطبي في " الاعتصام" (2 / 200- 202) : هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، لأن الكليات تقتضي عددا من الجزئيات غير قليل، وشاذها في ال‍غالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب، واعتُبر ذلك بمسألة التحسين العقلي، فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال، ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا، وأما الجزئي: فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين، حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون ـ ولكن إذا قرب موقع الزلة لم يحصل بسببها تفرق في ال‍غالب ولا هدم للدين، بخلاف الكليات، فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو في الدين إذا كان اتباعا مخلا بالواضحات وهي أم الكتاب، وكذلك عدم تفهم القرآن موقع في الإخلال بكلياته وجزئياته. اهـ.

س / هل يسوغ خلاف الأشعريّة في تأويلهم للصّفات الخبريّة ؟

ج : الأقوال السّائغة في تفسير النّصوص المتشابهة هي الأقوال الّتي يُحتمل أنّها معانيها، وتُحتمل هي لقائلها فيسوغ خلافه ؛ وهي الوجوه التي يحتملها اللّفظ لغةً ما لم تُخالف قاطعًا من الأدلّة أو ما هو كالقاطع، لأنّها تصير بمخالفتها للقطعيّات وما يُقاربها غير محتملة شرعًا، ومن ذلك أن يُخرج في فهمها عن إجماع المسلمين وأوّلهم الصّحابة الّذين هم أوّل الدّاخلين في معنى الرّاسخين في العلم الّذين مدح الله تعاملهم مع تلك المتشابهات في قوله تعالى : (( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )) ، ومعلومٌ أنّ الصّحابة قد سكتوا عن تفسير النّصوص المتشابهة ، فصار في دائرة سواغ الخلاف كلّ من يفهم فهمًا يُحتمل أنّه هو سبب سكوتهم، وفي خصوص الرّسوخ من يفهم الفهم الصّحيح الذي هو الحقّ الواحد في نفس الأمر ( في علم الله ) ، وذلك أنّ الحقّ واحدٌ في نفس الأمر ، لكنّ المجتهدين يحاولون إصابته فيُؤجرون أجرًا يُزاد لمن يصيبه منهم عليه أجرٌ معه فيكون له أجران، فذلك هو الرّاسخ في حقيقة الأمر ، لكنّه يتعذّر عليهم (في علمهم) القطع بتعيين ذلك الرّاسخ لتعذّر معرفة الّذين أصابوا الحقّ منهم من هو؟ فيكون جميعهم في ظاهر الأمر ـ الذي يُحكم به في الشّريعة ـ قائلون علمًا محكومًا بصحّته لصحّة احتمال أن يكون هو الصّواب في باطن الأمر الّذي هو مراد الله، وهذا مبنيّ في خاصّة هذه المسألة ـ كما تقدّم ـ على معرفة سبب سكوت الصّحابة ومن يُقطع أنّه من الرّاسخين مثلهم، وهم :

ـ يُحتمل أنّهم سكتُوا لعلمهم بأنّ اليد والعين والاستواء ونحوها هي صفات كمال للرّبّ والكيف فيها مجهول ...

ـ ويُحتمل أنّهم سكتُوا لعلمهم بأنّ تلك الألفاظ هي من أساليب العرب التي لا يُراد ظاهرها ...

ـ ويُحتمل أنّهم سكتُوا لعلمهم باستئثار الله بعلم حقائق معانيها دون غيره ...

فكلّ ذلك محتملٌ ، وموجودٌ من كلام الأئمّة بعد الصّحابة ما يوافق كلّ احتمال منه ...

ـ فمن الأوّل : قول مالك في قوله تعالى : (( استوى على العرش )) : « الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول»، وقول ابن الماجشون وأحمد : « إنا لا نعلمُ كيفيةَ ما أخبرَ اللهُ عن نفسهِ وإن كُنا نعلم تفسيرَه ومعناه ...

ـ ومن الثّاني : قول أحمد في قوله تعالى : (( وجاء ربّك )) : « جاء ثوابه»، وفي رواية : « قدرته» ، وقول الشافعيّ في قوله تعالى : (( فثَمّ وجه الله )) : فثمّ الوجه الذي وجّهكم الله إليه ، وقول البخاريّ في قوله تعالى : (( كلّ شيء هالك إلّا وجهه )) : « إلّا مُلكه» ... وغير ذلك كثير ثابت ...

ـ ومن الثّالث : قول الشعبي وابن المسيب والثوري : «نؤمن بها ونقر كما نصّتْ، ولا نعيّن تفسيرها...

وأمّا الّذي لا يُحتمل ولا وجه له فهو قول غلاة المُثبتة من المجسّمة القائلين بحمل مثل تلك الألفاظ على مطلق ظاهرها ؛ فإنّهم يقولون أنّ اليد والعين والسّاق ونحو ذلك هي جوارح كالتي لدى المخلوق، وهذا كفرٌ بواح لأنّه يُخالف المقطوع به نقلا من كونه تعالى (( ليس كمثله شيء )) وعقلا من أنّ التّمثيل بالمخلوق نقصٌ، فيتنزّه عنه الخالق في بدائه العقول.

وكذا لا يُحتمل قول غلاة النّفي من الجهميّة والمعتزلة ونحوهم ؛ فإنّهم قائلون بمطلق نفي الصّفات الخبريّة والعقليّة معًا ،وهذا أيضًا كفرٌ صراح لوجود القطع بثبوت العقليّة كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسّمع والبصر والكلام ونحوها ... فإنّ العقل لا يَتصوّر ربّا إلّا ذا كمال مطلق، والكمال يقتضي في هذه إثباتها مع توقّفه في الخبريّة كاليد والوجه والاستواء قبل ورود النّصّ بها، ثمّ هو بعد ورود النّصّ يتردّد في فهمها بالنّظر إلى وجود ما يفهمه من النّقص في الإثبات أو عدمه فتكون فيه محتملَةً لأوجهٍ من المعاني بخلاف النّصّ في العقليّة، فإنّ العقليّة واجبة في العقل لا بدّ من إثباتها ، وهذه ممكنة غير واجبة وغير مستحيلة، والتّحقيق في هذا :
أنّ الذي يستحيل على الربّ من النّقص هو بعض الوجوه في إثباتها لا أصل الإثبات؛ فإنّ إثبات أصل المعنى لا يناقض كمال الرّبّ إذا قيل: هو مستوٍ على عرشه أو له يد أو وجه أو عين ونحو ذلك... إلّا مع فهم مستلزم للنّقص كالفهم الذّي يكون معه التّمثيل والتّكييف فيكون هو الباطل لاقتضائه النّقص الّذي يتنزّه عنه الرّبّ في بديهيّات العقل ، فدلّ أنّ الإثبات على النّحو الّذي يُنفى فيه الكيف والتّمثيل ممكنٌ، فساغ بذلك إثبات الخبريّة؛ كصفة الاستواء لله تعالى إذا أُثبت لا على معنى الحلول في مكان مخلوق ولا على أنّه انتقال مثل انتقال المخلوق بل على أنّه صفة كمال للخالق لا يدرك العقل فيها الكيف، وقلُ مثل ذلك في صفات اليد والوجه والعين ونحوها ؛ أنّه يسوغ إثباتها لا على أنّها جوارح كما في إثباتها للمخلوق، بل على أنّها صفات كمال للخالق لا يُدرِك العقل فيها كيفًا ...
لكن الرّاجح ـ بعد معرفة سواغ القول بإثبات أصل المعنى لإمكان ثبوته في نفس الأمر الذي عُرف باحتمال اللّفظ لذلك ـ أنّه لا يُصار إلى ترجيح ذلك الإثبات أو عدمه إلّا بحسب القرائن المحتفّة باللّفظ ؛ فيترجّح الإثبات في مواضعه التي يقتضيه فيها السّياق والقرائن دون المواضع التي يقتضي فيها السّياق والقرائن عدم الحمل على الظّاهر ...

ومثال هذا : أن يُرجّح في قوله تعالى : (( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )) أنّ معنى (اليد) لله : صفة كمال بلا تكييف ولا تمثيل، إذ لو قيل أنّها بمعنى القدرة أو النّعمة لكان إبليس قد اعترض قائلًا : "وأنا أيضا خلقتني بقدرتك أو بنعمتك " , لكنّه عدل عن ذلك الجواب إلى غيره فقالَ : (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )) فعلمنا أنّ الله خلق آدم بيديه حقيقةً, وهذا مع بطلان ما قد يتوهّمه العقل في ذلك من المماسّة لبطلان التّكييف والتّمثيل كما تقدّم.

ومثاله : أن يُرجّح في قوله تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعامًا )) أنّ (الأيدي) ههنا هي بمعنى القدرة والنّعمة ، أمّا القدرة فإنّ هذا السّياق كسياق حديث النواس بن سمعان في خروج يأجوج ، ومأجوج : " فيوحي إلى عيسى أني قد بعثت عبادا لا يَدَان لأحد بقتالهم " ، وأمّا النّعمة فكما في قولهم ( زيدٌ له عَلَيّ يَدُ ) أو ( له عليّ يد طولى ) ، وكذا في قوله صلّى الله عليه وسلم لنسائه : ( أسرعكنّ لحوقا بي أطولكنّ يدًا ) فكنّ يتطاولن أيّهنّ أطول يدًا , فكانت زينب أطول يدا لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق ... فمثل هذا من أساليب العرب لكن ليس في شيء منه ما يقتضي بطلان الإثبات في الموضع الأوّل.

ومثاله : أن يُرجّح في تفسير فوقية الله في قوله تعالى : (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ )) أنّها فوقية حقيقيّة معناها أنّه تعالى فوقهم بذاته أيضًا فيُثبت له فوقيّة ذات مخالفة لفوقيّة الحوادث وما تقتضيه من النّقص، وعند الأشعرية هي فوقية معنوية ومعناها القهر كما في قول فرعون لقومه : (( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ )) ، لكنّ التّحقيق أنّ ذلك يكون معنى الفوقيّة إذا نُسبت للقهر كما في قوله تعالى : (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )) فتكون فوقيّة قهرٍ لتقييدها بالقهر . وكذا إذا نُسبت للعلم كما في قوله تعالى : (( وفوق كل ذي علم عليم )) فتكون فوقيّة علم لتقييدها بالعلم ، وهكذا كلّما نسبت الفوقيّة لأمر معنويّ فهي معنويّة, وإن نسبت لذات الموصوف بها فهي ذاتيّة ، هذا هو التّحقيق الرّاجح الذي أرى أنّ القائلين به هم أهل التّحقيق والرّسوخ ما لم يقطعوا بتخطئة المخالف إلّا الذي ينفي أصل وصف الله بالعلوّ ولو كان معنويًّا كما يفعل أهل التّعطيل الحقيقيّ من الجهميّة والمعتزلة ، فإنّهم نفوا صفات الله جميعا بما فيها العقليّة التي يقطع العقل باتّصافه تعالى بها ، وهم أصل نفيهم قائمٌ على توهّمهم أن إثباتها يقتضي تعدّد القدماء، وأجيبوا على ذلك بأنّ التّعدّد هو للصّفات في الذّهن لا لنفس الموصوف في الخارج ، فحقيقة اتّصاف المتّصف بصفات كثيرة لا تجعله هو متعدّدا وإلّا فما من موجود إلا له صفات تقوم به، وهذا مبنيٌّ أيضًا على معرفة الصّواب في مسألة الفرق بين الاسم والمُسمّى ومسألة الحدوث والقِدم ، والأشعريّة في ذلك رادّون على شبه الجهميّة والمعتزلة فكانوا من عموم المثبتة، ولذلك أثبتوا ههنا صفة العلوّ أيضًا ...

* لكن أشعريّة العصر كسلفيّة العصر يلعن بعضهم بعضًا ويبدّعون ويُكفّرون من غير أن يكون قول واحد من الفريقين هو القول الفصل الذي يُقطع بصوابه وضلال الآخرِين، فإنّ أصل أقوالهم سائغ كما تقدّم ، وإنّما الّذي لا يسوغ هو اختيار قول محتمل مع العصبيّة التي أوّل من أنشأ أصلها وأوقد نارها بين الطّائفتين هو ابن القشيري في فتنته المشهورة التي تفرّق بسببها الحنبليّة والأشعريّة، وقد كانوا قبل ذلك فريقًا واحدًا يكوّن مع الماتريديّة أهل السنّة المثبتين لصفات الله تعالى ، ولذا ذكر السَّفَّاريني رحمه الله وغيره أنّ أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف ؛ قال: "هم أهل الأثر والأشاعرة والماتريدية " ، والله تعالى أعلم.

س / هل من الأئمّة من ذكر أنّ الأثريّة والأشعريّة كلاهما من أهل السنّة ؟

ج / نعم ، ومن هؤلاء :

1 ـ الإمام السفاريني الحنبلي صاحب العقيدة السفاريينية " قال في شرحها "لوامع الأنوار " ( 1/73) : "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل. والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري. والماتريدية: وإمامهم أبو ‍منصور الماتريدي " ! وقال في ص 1/76 : ( قال بعض العلماء : هم - يعني الفرقة الناجية - أهل الحديث يعني الأثرية والأشعرية والماتريدية ) اهـ.

2 ـ الإمام عبد الباقي المواهبي الحنبلي في كتاب "العين والأثر" ص 52: ( طوائف أهل السنة ثلاثة : أشاعرة وحنابلة وماتريدية بدليل عطف العلماء الحنابلة على الأشاعرة في كثير من الكتب الكلامية وجميع كتب الحنابلة !!! ) اهـ.

3 ـ الإمام الحافظ شمس الدّين الذّهبيّ : قال في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أبي نعيم الأصبهاني الأشعري 17/ 459 : ( وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقيل وقال وصداع طويل فقام إليه [ أي إلى أبي نعيم ] أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد الرجل يقتل . قلت [ أي الذّهبيّ ] : ما هؤلاء بأصحاب الحديث بل فجرة جهلة أبعد الله شرهم ) اهـ

4 ـ الحافظ أبو القاسم ابن عساكر : قال في كتابه تبيين كذب المفتري ص 163: ( ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ) اهـ.

5 ـ شيخ الإسلام ابن تيمية : قال في مجموع الفتاوى 6/ 53: ( و الأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيرى ) اهـ.

وقال في مجموع الفتاوى أيضًا 4/17: ( قال أبو القاسم بن عساكر : ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة ابن القشيري ) اهـ.

وقال في 3/227 : ( والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة ) اهـ.

وفي 3/229 : ( ولما أظهرت كلام الأشعرى ورآه الحنبلية قالوا هذا خير من كلام الشيخ الموفق وفرح المسلمون باتفاق الكلمة وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة ) اهـ.

وفي 3/269 : ( ولهذا اصطلحت الحنبلية والأشعرية واتفق الناس كلهم ولما رأى الحنبلية كلام أبي الحسن الأشعري قالوا هذا خير من كلام الشيخ الموفق وزال ما كان في القلوب من الأضغان وصار الفقهاء من الشافعية وغيرهم يقولون الحمد لله على اتفاق كلمة المسلمين ) اهـ.

6 ـ الإمام ابن الوزير اليماني: في العواصم والقواصم 3 /331 : ( مذهب أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة الحديث وهم طائفتان: الطائفة الأولى: أهل الحديث والأثر وأتباع السنن والسلف الذين ينهون عن الخوض في علم الكلام ... ثم قال في 4/118: الطائفة الثانية : أهل النظر في علم الكلام والمنطق والمعقولات وهم فرقتان: أحدهما : الأشعرية ... . والفرقة الثانية من المتكلمين منهم : الأثرية كابن تيمية وأصحابه فهؤلاء من أهل الحديث لا يخالفونهم إلا في استحسان الخوض في الكلام وفي التجاسر على بعض العبارات وفيما تفرد به من الخوض في الدقائق الخفيات والمحدثون ينكرون ذلك عليهم لأنه ربما أدى ذلك إلى بدعة أو قدح في الدين ) اهـ

س / قد كان الأشاعرة والحنابلة معارك عبر سنوات ، أفلم يعلم أحد منهم أنّ ما بينهم في الأكثر غير خلافات لفظية ؟

ج / بلى قد علم ذلك جماعة من المحققين منهم؛ وهؤلاء صنفان ؛ صنف أوّل : أنكر على المخالف مع ذلك من باب سد ذرائع الابتداع لأن الابتداع في الألفاظ ذريعة للابتداع في المعاني ومن هؤلاء ابن تيمية ، وصنف ثان : لم ينكر، ومن هؤلاء الأسفراييني.

منذ 9 أعوام
بلال فيصل البحر

نُجْعَةُ الـمُنْتَابْ
في الرَّدِّ على الشَّريفِ عَدَابْ

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى..وبعد:

فقد اطّلعتُ على مقدمة جزء لطيف أفرده الشريفُ الدكتور المحدّث عداب الحمش، في الكلام على تأصيل ما قام به أهلُ الشام من الثورة على طاغية الطائفة النُّصيرية، جواباً عن سؤال مَنْ سأله عن ذلك.
وتضمن جوابُ الشريف المذكور في مقدّمته الطعنَ على خلافة الصدّيق الأكبر وإخوانه من الراشدين، تارة بالسؤال وتارة بصريح المقال، ونقْدَ بعضَ طُرقهم وتصرفاتـهم الحُكمية السياسية التي وقعت منهم إبّان عهدهم.
ووقع في غضون جوابه من الغلط في الحكم، والخطأ على السلف الأول ما نبيّنه، فأول ذلك قوله:
(مَن يظنّ التكييف الفقهيّ لأيّ ثورةٍ من ثوراتِ الربيعِ العربيّ أمراً سهلاً، يمكن البتّ به في مقالٍ واحدٍ، أو عشرِ مقالاتٍ، بمثل ما ننشره على صفحتنا هنا؛ فهو شديد الوهم!)
فيـُقال إن كان حكم ذلك مما لا يغني فيه المقالات الكثيرة لعدم وضوحه كما ذكرتَ، فكتابتُك فيه مقالاً أو مقالين من العبث الذي يربأ عنه العقلاء وهو مظنّة الغلط، فإنه بـمنزلة من يقتحم سَبْسَباً لا يدري منتهاه ومبتداه بحثاً عن الخصب.!
وهذا على إطلاقه غير متّجه، وإنـما يقال هذا في الفتاوي للنوازل التي لا حصر لها، وأما في مثل ما جرّده من المقالات في تأصيل الحكم الشرعي العام للثورة الشامية كما هو ظاهر من عنوان مقاله، فيمكن جداً أن يقع البيانُ في قدْرِ ما يحاوله من المقالات، بوضع الضوابط الكلية التي تتخرّج عليها الأحكام الجزئية.
وقد ذكر هو في أول الجواب كلاماً معناه البراءة من كل الفرق والطوائف، وجزم بأنه ليس من الشيعة ولا من السنة، وهذا لا محل له من الواقع وإن ادّعاه الشريف أيّده الله، فإنه إن قصد به الانتساب لـمذاهب الأئمة في الأحكام فلا يخلو أن يكون من ادّعى ذلك ممن بلغ رتبة الاجتهاد أو لا.؟
الثاني لا يحل له غير الديانة بـمذهب إن كان من أهل العلم كما قرره ابن رجب في رسالته في الرد على من اتّبع غير مذاهب الأئمة، وإن كان من العوام فالعامي لا مذهب له، وإنـما مذهبه مذهب مفتيه.
والأول لا يخلو أن يكون مجتهداً مطلقاً أو مستقلاً بـمذهب جديد يباين في أصوله مذاهب الأئمة، الثاني باطل قطعاً وغير متصَوّر أصلاً كما حققه الجلال السيوطي في جزء (الرد على من أخلد إلى الأرض) وقد ذكر العلامة ابنُ الـمـُنيِّر أنه غير ممكن لأن أساليب الاجتهاد والنظر والأصول قد اسْتُوعبت، فلا يخلو المجتهد في الأعصار التي بعد انقراض أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة من اتّباع واحد منهم في أصوله، أو الاختيار من أصولهم ما يهتدي إليه بالنظر المجرّد وهو المجتهد المطلق وأما اختراع أصول لم يتقدمه إليها مجتهد فغير ممكن ومن ادّعاه فليأتِ به فإنه لا يقدر عليه، وبه يعلم الجواب عن الأول.
وعليه فلو سلمنا أن الشريفَ أيّده الله مجتهدٌ مطلق، فلا يسعه إلا الاختيار من أصول الأئمة ما يجتهد على وفقه، فهو بـهذا منتسبٌ ولابدّ إليهم من حيث الجملة، فبطل من هذا الوجه دعواه عدم الانتساب إن قصد به مذاهب الأئمة في الأحكام.
وإن قصد بعدم الانتساب ما تعتقده الطوائف والفرق من المقالات الكلامية، فلا يخلو أن يكون قصد أنه لا يدين بقول طائفة منها في أصول الدين وما تنتحله من المقالات الإسلامية، فهو إذن محلّ غير قابل للصفة أصلاً، والشريف أكبر من أن يـُظنَّ به ادّعاء ذلك.
أو أنه قصد به الانتماء والالتزام فهذا بتقدير صحة دعوى الشريف إياه إن قصده غير واقع، لأن الانتماء والحال هذه شخصية اعتبارية، فإنه لا يتّجه في المذاهب والطوائف الكلامية، وإنما تصح دعواه في الأحزاب السياسية وهذا ظاهر.
وإن قصد اعتقاد مقالة طائفة بعينها والعصبية لها بالذبّ عن أصولها فهو حق، لكنه لا يخلو من موافقتها في بعض ما عندها أوموافقة غيرها ممن خالفها، فهو منتسب ولابدّ إلى بعض هذه الفرق في مطلق الموافقة والمخالفة في الجملة، فيقال والحال هذه هو في هذا الأصل شيعيٌّ أو في ذاك الأصل سنيٌّ، أو يُنسب إلى بعضها باعتبار ال‍غالب من مقالاته، كما نسب هو إلى التشيع بالعراق وإلى السلفية بالجزيرة، فإن المحلَّ القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، ولا يُتصور خلوه من واحدة منها مطلقاً.
وإن قصد الانتساب العام للإسلام دون مسميات فرقه وطوائفه، فهذا لا يعارض الانتساب للسنة كما هو معلوم، بل ولا يعارض الانتساب للشيعة الأولى من أصحاب علي عليه السلام، دون طوائف الشيعة التي وجدت بعد ذلك وانتحلت من المقالات ما يناقض أصول الإسلام والسنة كسبِّ السلف وعصمة الأئمة ونحو ذلك من المقالات.
وإن كان ثمَّ مقصد خامس فليُـذكر حتى نتكلم عليه.
ثم إنه نقل عن السائل أنه ذكر أن الشريفَ المذكور مُذْ كان بالعراق كان حرَّ الفكر لا ينتسب لطائفة أو مذهب، وزعم أنه جَبَه أهلَ السنة بالعراق وجاءهم بـما أسماه هو حقاً، فلم يلتفت إليه أحد، ولا تبعه على مقاله منهم فرد.!
وهو يقصد ما عليه أهلُ السنة بالعراق من الكفِّ عن الصحابة، وموالاتـهم جميعاً، وعدم الخوض فيما شجَرَ بينهم، فجاءَهم هو بـما اعتقدَه حقاً من الطعن على بعضهم وإكفاره، على طريقة الحافظ السيد أبي العباس الغُماري الكبير والإخوان الصدّيقيين بثغر طنجة ومن تبعهم.
وما ذكره على لسان السائل من أنه أتى أهلَ السنة بالعراق بـما لا يعرفونه مغالطة ظاهرة، فإنه بتقدير كونه حقاً فقد كان بالعراق قبل الشريف من ينتحل ذلك ويدين به ويدعو إليه من أهل السنة، كالشيخ مطلق الجبوري وقبله الدكتور أحمد الكبيسي وكان في الصوفية بالعراق طوائفُ ممن يعتقد ذلك، فليس هو بأول من جاء به، فضلاً عن كون هذا المذهب موجوداً في غير العراق عند الغماريين وصوفية اليمن من الشافعية بحضرموت وزبيد.
على أن السلامة من ذلك هو الجادة كما قال أمير ‍المؤمنين عمر بن عبد ال‍عزيز وقد سئل عن ما جرى بين الصحابة فقال: (تلك دماءٌ طهّرَ الله منها سيوفَنا، فلنـُطَهّرْ منها ألسنتَنا) ثم تلا (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وذكر القاضي أبو علي التنوخي في (نشوار المحاضرة) عن أبي العباس ثعلب النحوي قال: كان عندنا بالحربية حمالٌ مستور يوصف بالزهد، وكان لا يحمل لأصحاب السلطان شيئاً، وكان إذا حمل على قدر قوته – على ضيق – لم يزدد عليه شيئاً وأراح نفسه، ولا يحمل إلا كارةً خفيفةً مثل لحم وفاكهة وما يكون قدره خمسين رطلاً أو نحوه، قال: فاتّبعتُه يوماً وهو لا يعلم أني خلفَه، فرأيتُه يضع رِجلاً ويقول: الحمد لله، ويرفعها ويقول: استغفر الله، فقلتُ له لم تفعل هذا.؟
فقال: أنا بين نعم الله وذنوبي، فأحمده على نعمه، واستغفره من ذنوبي.
فأردتُ امتحانَه فقلتُ: ما تقول في عليٍّ وأبي بكر.؟
فقال: إذا نُشرت الدواوين ووضعت الموازين، أُسأل عن ذنوبي أم عن تفضيل أبي بكر وعليّ.؟
فقلت: بل عن ذنوبك.
فقال: فلي فى نفسي شُغْلٌ عن معرفة الأفضل منهما.
وهذا كقول الفارسي كما في (المستطرف) للأبشيهي:
لعمرُك إنَّ فى ذنبي لشُغلاً...لنفسي عن ذنوبِ بني أميّه
على ربي حسابـُهمُ إليه.........تناهى عِلْمُ ذلك لا إليّه
وليس بضائري ما قد أتَوْهُ....إذا ما اللهُ أصلَحَ ما لديّه
وقد سُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أرجى الأعمال فقال: (لم نرَ كالسلامة).
وهؤلاء يظنون أن التشيّعَ إنـما هو التظاهرُ بثلْبِ مَنْ حاربَ أمير ‍المؤمنين عليّاً عليه السلام، والمجاهرة بالطعن على خصومه، كما يعتقده طوائفُ من الصوفية والمحدّثين والفقهاء ممن يتمذهب للغماريين كالدكتور محمود سعيد ممدوح والشيخ حسن السقاف ونظرائهما، وهو من أعظم الغلط على الشيعة الأولى الذين كان فيهم من السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم من التابعين وعلماء الأمصار وخيار الناس وصالحيهم ممن لا يُستظهر عليهم بأحد، كعمار بن ياسر وأبي أيوب الأنصاري وأويس القرني والشعبي وسليمان التيمي وخلائق لا يحصيهم العدُّ من أهل الكوفة وغيرهم، حتى إن شعبة قال لـمن سأله عن ثقات أصحابه الحفاظ فأشار إلى الكوفة وقال: (أولئك الشيعة).!
ولم يكن تشيّعُ هؤلاء سبَّ السلف، وإنـما كان النُّصرة لأمير ‍المؤمنين عليّ عليه السلام والقطع بأنه على الحقّ، وأن مخالفيه من إخوانه الصحابة كأهل الجمل وصفين على الخطأ دون إكفار أحد منهم، كما ثبت عنه عليه السلام أنه نـهى عن لعن أهل الشام لأن فيهم الأبدال، وقال: (إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا).
وأمر مناديه أن ينادي في عسكره بأن لا تُقسم مغانـمُهم، ولا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا يُذَفَّف على جريـحهم، ولا يتبع مدبرهم، ولأجله خرجت عليه الخوارج.
وثبت عن أمير ‍المؤمنين عمر بن عبد ال‍عزيز أنه قال: (رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر جالسان عنده فسلَّمتُ عليه وجلستُ، فبينا أنا جالس إذ أُتي بعلي عليه السلام ومعاوية رحمه الله، وأُدخلا بيتاً وأُحيف عليهما البابُ وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج عليٌّ وهو يقول: قُضي لي ورب الكعبة، وما كان بأسرع من أن خرج معاويةُ وهو يقول: غُفر لي ورب الكعبة).
ذكره ابن سعد في (الطبقات) وابن العديم في (تاريخ حلب) وعمر هو من أبطل بدعةَ سبّ عليّ عليه السلام من نواصب الأمويين في خطبة الجمعة، وسنَّ للمسلمين ما هم عليه إلى اليوم من الترضي عن الخلفاء الراشدين.
وذكر ابنُ العديم أيضاً عن عمرو بن شرحبيل أنه رأى عماراً وذا الكلاع وكان مع معاوية، في ثياب بيض في الجنة فقال: ألـم يقتل بعضُكم بعضاً.؟ فقالا: بلى, ولكنا وجدنا اللهَ واسعَ المغفرة.
وقد قال ابن الأمير الصنعاني في (ثـمرات النظر) له:
أنا شيعيٌّ لآلِ الـمصطفى......غير أني لا أرى سبَّ السلفْ
أقصدُ الإجماعَ فى الدين ومَنْ...قصدَ الإجماعَ لم يخشَ التلفْ
لي بنفسي شُغُلٌ عن كلّ مَنْ.......للهوى قَرَّضَ قوماً أو قَذَفْ
فهذا هو تشيّع أهل السنة بالعراق وغيره من أمصار المسلمين وهم فيه وسط بين النواصب والروافض، وقد سأل عطاء أبا حنيفة: من أيّ الأصناف أنت.؟ فقال: (أنا ممن لايسبُّ السلفَ، ويؤمن بالقدر، ولا يكفّر أحداً بذنب) فقال له: عرفتَ فالزم.
ولـمن ينتسب للسنة في معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما ثلاثة أقوال، فمنهم من يـُمسك عنهما طلباً للسلامة كما قلناه فلا يذكرهما باللعن ولا بالرضا، وهذا يقوله طائفةٌ من أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف كالنسائي والحاكم وابن عبد البر وغيرهم.
ومنهم من يجاهر بلعنهما كالإخوان الصديقيين وبعض شافعية اليمن من آل العلوي والسقاف والأهدل وغيرهم، وكابن الأمير الصنعاني وأصحابه كما قال في (ديوانه):
لقد نسَبَ الأنامُ إليَّ قولاً......عليهم ربُّنا فيه شهيدُ
وقالوا قد رضينا بابن حربٍ.....وقُلنا إنه ملِكٌ رشيدُ
كذبتُم إنه والله عندي........لَـفِسِّيقٌ وشيطانٌ مريدُ
وملعونٌ بـما كسبتْ يداه...كذلك نجلُه الطاغي يزيدُ
وقال أيضاً في (ثمرات النظر):
قال النواصبُ قد أخطا معاويةُ...في الاجتهاد وأخطا فيه صاحبُه
والعفو عن ذاك مرّجوٌّ لصاحبه.....وفي أعالي جنان الخُلْد راكبُه
قُلنا كذبتم فلمَ قالَ النبيُّ لنا.....في النار قاتلُ عمّارٍ وسالبُه
وهذا مذهب شاذ مرذول عند جماهير أهل السنة، وقد نقضنا عليه أبياته هذه وبيّنا في جزء مفرد بطلان زيادة (قاتل عمار وسالبه في النار) ونكارتـها في خبر الفئة الباغية أثراً ونظراً، وأنه غالط فيما نسبه إلى النواصب من أنـهم يقولون إن معاوية وعمرو مخطئان، بل هذا قول جمهور أهل السنة والحديث والفقهاء والصوفية والمتكلمين، وأما النواصب فإنـهم يقولون إنـهما مصيبان ومخالفهما مخطئ، وبالله التوفيق.
وجمهور أهل السنة على الترضي عنهما لشرف الصحبة، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استكتبَ معاويةَ على الوحي، وشهد لعمرو بن العاص وأخيه هشام بالإيمان كما خرّجه أحمد والحاكم وغيرهما بسند جيد، وصح عنه عليه السلام أنه لا يلج الجنة إلا نفسٌ مؤمنة.
ومن هنا قال أحمد في رواية الفضل بن زياد لـمن سأله عن من يتنقّص معاوية وعمرو بن العاص هل يقال له رافضي.؟ فقال: (إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئةُ سوء، ما انتقص أحدٌ أحداً من الصحابة إلا وله داخلةُ سوء).
وقال أبو توبة الربيع بن نافع: (معاويةُ سِتْرٌ لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كشَفَ السِّتْرَ اجترأَ على ما وراءَه).
ولا يثبت عن أحد من الصحابة سبّ معاوية ولعنه، لا عليّ ولا غيره، لـمكان الصحبة وشرفها، وإنـما الثابت عنهم إنكار ما أحدثه في الإسلام من الأمور المنكرة، كما نُقل عن الحسن البصري أنه كان يُنكر على معاوية أربعة أشياء: قتالَه عليّاً عليه السلام، وقتلَ حُجْر بن عدي، والعهدَ ليزيد، واستلحاقَ زياد ابن أبيه وهو كما قال ابنُ الـمسيِّب: (أولُ قضاءٍ باطلٍ في الإسلام) وأنكرت عليه أمُّ سلمة رضي الله عنها فيما رواه أبو جعفر الطبري في (تاريخه) سبَّ أمير ‍المؤمنين عليِّ عليه السلام وكتبتْ إليه بذلك.
وقد صنّف في فضل معاوية وجمع ما روي في مناقبه غير واحد من الحفاظ كأبي علي الأهوازي وأكثره باطل، وأبي عمر الزاهد اللغوي وكان لا يـُحدّثُ أحداً إلا بعد أن يقرأَ عليه هذا الجزء، ولابن أبي الفوارس أيضاً في هذا المعنى تصنيفٌ مفرد، وللإمام الحافظ أبي بكر بن أبي عاصم، وأبي القاسم السقطي، وابن رزقويه، وصنف الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتاب (حِلْم معاوية) واستوعب ذلك كله الحافظ أبو القاسم بن عساكر في (تاريخه) فأجاد.
ورأيتُ للإمام العلامة الحافظ المجتهد الأمين الشنقيطي جزءاً أفرده في الكلام على ماورد من فضائل معاوية وتصحيح بعضها.
والتحقيق أنه لا يصح في فضل معاوية حديثٌ بـمفرده كما أشار إليه البخاريُّ في (كتابه) وقاله جماعةٌ من الحفاظ الكبار كالنسائي وأبي علي النيسابوري والحاكم وغيرهم.
وذكر ابن الجوزي في (الـمناقب) عن عبد الله بن الإمام أحمد أنه قال لأبيه: ما تقول في علي ومعاوية.؟ فأطرق ثم قال: (اعلم أن علياً كان كثيرَ الأعداء، ففتَّشَ أعداؤه عن عيْبٍ له فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كياداً منهم لعليّ).
وذكر الإمامُ العلامة أبو عبد الله نفطويه النحوي في (تاريخه) أن بني أميّة عمدوا إلى وضع أحاديث في مناقب معاوية كياداً لأمير ‍المؤمنين عليّ وأصحابه كما تقدّم عن الإمام أحمد.
قال الحافظ ابن حجر: (فأشار أحمدُ بـهذا إلى ما اختلقوه لـمعاوية من الفضائل مما لا أصل له، وقد ورد في فضل معاوية أحاديثُ كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحق بن راهويه والنسائي وغيرهما).
وبه يُعلم غلط العلامة الحافظ محمد بن الحسن الددو رعاه الله في إيراده خبرَ أمِّ حرام بنت ملحان خالة أنس محتّجاً به على فضل معاوية والشهادة له بالجنة، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى عندها رؤيا أن قوماً من أمته يركبون ثبَجَ هذا البحر الأخضر مثل الـملوك على الأسرة..الحديث، فاحتجَّ هو بـما توهّم أن البخاريَّ زاد في روايته في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (هم في الجنة) ومعاوية هو أمير هذا الجيش الذي افتتح قبرص سنة سبع وعشرين، وهي أول غزاة في البحر كانت في الإسلام.
ولا أصل لهذا اللفظ في هذا الحديث، ولم يوقف على هذه الزيادة في متنه لا في (الصحيح) ولا خارجه، ولو وجد مثل هذا لـما قطع هؤلاء الحفاظ بأنه لا يصحُّ في هذا المعنى حديث.
والمحفوظ أن هذه الزيادة وقعت عند ابن أبي شيبة في أهل الجمل من حديث أبي بكرة، وأما حديث ابنة ملحان ففيه من الدلالة على فضائل معاوية ومن معه في هذه الغزاة، ما وقع في بعض ألفاظه عند أحمد وإسحاق بن راهويه وعبد الرزاق بسند قوي بلفظ (فيرجعون قليلةً غنائمُهم، مغفوراً لهم) وفي رواية لأحمد قالت أمُّ حرام: (فذكرَ لهم خيراً كثيراً).
ولاريب أن في بعض الـمنتسبين للسنة والحديث من الغلو في الاعتذار عن بني أمية وما وقع منهم من الجور في حقّ آل بيت النبوة ما أوقعهم في النّصب، كأبي إسحق الجوزجاني وحريز بن عثمان وعبد المغيث الحربي الحنبلي وغيرهم، بل لقد حكى أبو العباس بن تيمية في (النقض على ابن المطهر) أن بعض الأندلسيين يربّعون الخلافةَ بـمعاوية دون عليّ، ومن عجب أن أبا حيان النحوي الأندلسي ترجم في كتاب (النُّضَار) لبعض شيوخه ورماه بالاختلاط بدعوى أنه هجا يزيد بن معاوية.!
وهذا ابن عبد ربّه الأندلسي، نظم أرجوزةً في الخلفاء ذكر فيها معاويةَ رابعَ الراشدين، ولم يذكر عليّاً! ولما وقف عليها القاضي الإمام الـمنذر بن سعيد البلوطي الظاهري رحمه الله في دار أبي القاسم الجُبيري كتبَ في حاشيتها:
أَوَ مَا عَلِيٌّ لاَ برِحتَ مُلْعَنَاً...يابنَ الخَبيثةِ عندَكُم بِإِمَامِ
ربُّ الكِساء وخيرُ آل محمَّدٍ...دَاني الولاءِ مُقدَّمُ الإِسلامِ
وقال الإمام أحمد: (من لم يـُربّع بعليٍّ في الخلافة فهو أضلُّ من حمار أهله).
وقد نحا نحوهم في المبالغة بالاعتذار للأمويين في عصرنا هذا جماعة من المنتسبين للسنة كالأستاذ محب الدين الخطيب وبعض المنتسبين للسلف من جماعة أنصار السنة بـمصر كحامد الفقي وبعض الخطّابيين.
ومن سنن الله في خلقه أن الغلو في الإثبات لابدّ أن ينتج عنه في مقابلته غلوّ في النفي، كالغلو في الولاء لابد أن يقابله الغلو في العداء، وقد نتج عن غلوّ بعض المنتسبين للسنة في الاعتذار للأمويين مذهبُ الإخوان الصديقيين وبعض الشافعية بحضرموت واليمن من آل العلوي والسقاف والزيدية، في إكفار الأمويين ومن شايعهم من العلماء كأبي بكر بن العربي وغيره، حتى خرجوا إلى ضرب من الرفض كما خرج أولئك إلى ضرب من النصب، حتى إن منهم من ينْبُز البخاريَّ بالنصب لمجرد أنه روى في الصحيح) عن عمران بن حطان الذي امتدح ابن ملجم قاتل عليّ عليه السلام.!
ومن طرائف الأخبار أن القاضي زيد الديلمي من فقهاء الزيدية كان يقرأ البخاريَّ على أصحابه في مجلسه، فوشى به بعض الغلاة إلى الأمير أنه يُقرئ البخاريَّ الناصبيَّ، فاندفع الأميرُ مع بعض حرسه وهجموا على مجلسه لقتله، فلما دخلوا المجلسَ بسيوفهم وحرابـهم، علمَ القاضي زيد بدخيلتهم، فأمر أصحابَه أن يكشفوا عن باب مناقب عليّ من (الصحيح) وقرأ القاضي قولَ البخاري: (باب مناقب عليّ وفاطمة عليهما السلام) فلما سمع الأمير ذلك استيقن كذب الخبر وقال: هذا البخاري يقول (عليهما السلام) ويذكر مناقب الآل! فسلِمَ القاضي.
ولما وقف السيد العلامة أبو بكر بن شهاب العلوي الحضرمي على كتاب ابن حجر الهيتمي في الذب عن معاوية وهو (تطهير الجنان من ثلب معاوية ابن أبي سفيان) كتب على حاشيته:
لا تُنكروا جـمْعَ تطهير الجنان ولا...مدْحاً به كذباً فيمن بغى وفجَرْ
فإنـما طِينةُ الشيخين واحدةٌ...ذاك ابنُ صخْرٍ وهذا المادحُ ابنُ حجَرْ
والمقصود أن ما رام الشريف أيده الله نشره في سنة العراق موجود فيهم وفي غيرهم قبله، وما قاله عنهم من أن فيهم نوعَ نَصْبٍ للآل فإنه موجود في سنة الشام ومصر والجزيرة واليمن أكثر منه في سنة العراق، ثم هو في بعضهم لا فيهم جميعاً كما توهمه، فضلاً عن كونه قديـماً كما ذكرناه.
فصل
قال الشريف أيده الله: (إذا كان الرسول؛ لم يعيّن نمطاً لاختيار الحاكم، ولا رسمَ صفاته، فهل كانت أنماط اختيار الراشدين الأربعة شرعيّة على تخالفها؟وهل الشورى هي سبيل اختيار الحاكم فعلاً؟ وكيف تطبّق الشورى، وهل طبّقت الشورى في تاريخنا الإسلاميّ مرّةً واحدةً؟ وعليه: فهل كانت أنماط اختيار الراشدين اضطرارية؟ وهل البيعةُ هي التي منحت حكمهم المشروعيّة؟ وهل كان لأحدٍ خيار في أن لا يبايع، أمام العقل الجمعي المسكون بوجوب طاعة الخليفة طاعة مطلقة؟).
ثم جزم بعد ذلك أن ولايتهم لم تكن إلا بالتغلّب فقال: (فنحن ليس أمامنا نموذجٌ للحكم الإسلاميّ الراشد، اتّفق المسلمون على رشاده ليكون نموذجاً شرعيّاً نحتكم إليه، ونحاكم الحكّام المتغلّبين جميعاً من يوم السقيفة، وإلى هذا اليوم! بفارق واحدٍ أن تغلّب الراشدين كان من دون دماء، وتغلّب مَن بعدهم كان دمويّاً أو أثراً من آثار التغلّب الدمويّ!).
والجواب: منع ما قاله من أنه عليه السلام لم يعيّن ما قال إنه نـمطٌ لاختيار الحاكم، بل الذي عليه أهل العلم أنه عليه السلام همَّ بذلك في كتاب الوصية الوارد في حديث الخميس في (الصحيحين) والـهمُّ من سنَّته عليه السلام، نصَّ عليه الشافعي والأصوليون، ومن هنا ذهب كثيرٌ من أهل العلم من السلف والخلف إلى أن خلافةَ الصدّيق رضي الله عنه ثبتت بالنص، وهو قول طائفة من الـمتكلمين والفقهاء من المعتزلة والأشعرية وأهل الحديث، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وأبي عبد الله بن حامد وغيرهما.
وتنازعوا هل كان نصاً جلياً أو خفياً.؟ قولان هما روايتان عن أحمد، واختار الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) وابن حامد وغيرهما أنـها ثبتت بالنص الجلي لحديث البخاري أنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ. فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ: (إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ) وحديث (الصحيحين): (ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا). ثُمَّ قَالَ: (يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) وفي رواية: (فَلَا يَطْمَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ طَامِعٌ).
وذهبت طائفة إلى أنه خفيٌّ بالإشارة وهو قول الحسن البصري وطائفة من المحدّثين، واختاره بكر بن أخت عبد الواحد والبيهسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر من الخوارج، لحديث الخميس في (الصحيحين).
واختار أبو العباس بن تيمية وغيره أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم دلَّ الصحابةَ على استخلاف الصديق وأرشدهم إليه بـما همَّ به من كتابة الوصية، وبغيره من النصوص والوقائع كاستخلافه في الصلاة ونحوه، ولـهذا قال بعض السلف عليّ أو غيره عن خلافة أبي بكر: (رضينا لدنيانا من رضيه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لديننا) يريد إمامته في الصلاة في مرضه.
وإنـما ترك عليه الصلاة والسلام كتابة النصِّ الذي فيه الخليفة بعده من حيث علم أن الله سيجمعهم على خيرهم، ولـهذا قال عمر رضي الله عنه لـمن قال له: ألا تستخلف.؟ فقال: (إن أستخلف فقد استخلفَ من هو خيرٌ مني يريد أبا بكر، وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خيرٌ مني يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
وهكذا قال عليٌّ عليه السلام حين طُعن: (إن الله يجمعكم على خيركم كما جمعكم بعد نبيّكم على خيركم).
وقد اجتمع الصحابة على مضمون كتاب الوصية دون ريب، فـإنـهم استنبطوا أن الخلافة في المهاجرين من كتاب الله، لأن الله سمّى الأنصارَ في كتابه ب‍المؤمنين في قوله (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم..الاية) وسمّى المهاجرين بالصادقين فقال (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) وافترض على ‍المؤمنين أن يكونوا تبعاً للصادقين فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
وهذا قياس اقتراني قضيته موجبة كلية، وهو مركب من مقدمتين، فكلُّ أنصاريٍّ مؤمن، وكل مؤمن تابعٌ للصادق، ينتج عنهما أن كلَّ أنصاريٍّ تبع للصادق وهو المهاجر، فثبت المطلوب وهو أن الخلافة في الـمهاجرين بـمقتضى تبعية الأنصار لـهم.
على أن عدم تعيين الخليفة بالنص من مقاصد الشارع لـما فيه من الـمرونة في الحكم والتوسعة على الأمة في هذا الباب، وبـهذا يقع الجواب عن ما أورده الشريف من الأسئلة فيقال: بلى قد كانت خلافة الصديق والراشدين شرعية انعقد إجماع الصحابة عليها، ولم تكن اضطراريةً، بل كانت شورى صدرت عن أهل العلم والحل والعقد الذين أرشد الله إلى ردِّ الأمر إليهم في النوازل بقوله (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).
وفي حديث علي عليه السلام أنه قال للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله: الأمر من أمور المسلمين ينزل بنا.؟ قال: (اجمعوا له العالمين أو قال العابدين ولا تقضوا فيه برأيٍ واحد).
فإن قيل: إن سعد بن عبادة لم يبايع.؟
قيل: كان هذا أول الأمر حين تنازع المهاجرون والأنصار واشتبه عليهم الحكم كما يشتبه على غيرهم من المجتهدين، ثم زال التشابه ببيان الصديق لهم، وأجمعوا عليه فصار الأمر من المحكمات، وبايع سعدٌ كما رواه أحمد بسند حسن مرسل كما قاله ابن تيمية عن عفَّان عن أَبي عوانة عن داود بن عبد اللَّه الأَوديِّ عن حُمَيد بن عبد الرحمن -هو الحميري- فذكر حديثَ السَّقيفةِ وفيه أنَّ الصدِّيقَ قال: ولقد علمتَ يا سعدُ أنَّ رسول اللَّه صلى اللَّهُ عليه وسلَّم قال وأَنت قاعدٌ: (قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ) قال: فقال له سعدٌ: (صَدَقْتَ نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْأُمَرَاءُ) قال ابن تيمية: (وفيه فائدة جليلة جداً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصدّيق بالإمارة فرضي الله عنهم أجمعين).
وهكذا امتناع عليّ عليه السلام من بيعة الصدّيق، فإنـما كان لـمرض الزهراء وانشغال عليّ بتمريضها، ثم بايع بعد ستة أشهر بُعيد وفاة البتول عليها السلام كما رواه مسلم.
وقد اجتمع الحافظ أبو العباس بن عقدة من الشيعة مع الحافظ أبي القاسم البغوي الذي ذكر له تنقصَ الكوفيين من الشيخين، فقال ابنُ عقدة: يا أبا القاسم: لا تحملك عصبيتُك لأحمدَ بن حنبل أن تقول في أهل الكوفة ما ليس فيهم، ما روى حديث (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) عن عليٍّ إلا أهلُ الكوفة، ولكن أهل الشام رووا أن عليّاً لم يبايع أبا بكر إلا بعد ستّة أشهر.!
وأما البتول فقد وجدت في نفسها الزكية على الصديق من حيث عدم قبولـها بادئ الرأي خبرَه في أن الأنبياء لا يورثون، وماتت عليها السلام على ذلك وقيل إنـها سلّمت ورضيتْ كما يأتي ذكره، لكن بتقدير وفاتـها على المخالفة له، فقد تقرر في الأصول زوال الخلاف بـموت المجتهد المخالف، على أنـها لم تـمتنع لطعنٍ أو تُـهمةٍ في خلافة الصدّيق كما هو معلوم، ومن ادّعاه فليأت بالدليل ودونه خرط القتاد.
وإنـما امتنعت لـما ذكرنا من وجْدِها عليه في مسألة الإرث، فخلافُها عليها السلام بتقدير وجوده معلّل بـهذه العلة فلا يقدح في الإجماع والحال هذه، لأن نزاعها لم يكن في خلافته بل في قضاء قضاه لم ترضته منه، وخلاف مجتهد ما لا يـمنع من نفاذ حكم الحاكم المخالف له، وغايته أن يكون وقع نزاع بين مجتهدين في مسألة، فيُقدَّم قول الصدّيق لـما تقرر أن اجتهاد مَنْ له الولاية مقدّم على اجتهاد مَنْ لا ولايةَ له.
ولا نزاع في استحقاق عليّ عليه السلام للإمارة، لكن يقال إنه على تقدير كونه أفضل من الثلاثة فجمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل وصحتها، وهو الذي نصَّ عليه أحمد وأبو الحسن الأشعري وأبو ‍منصور الماتريدي في (تفسيره) وغيرهم.
وإن كان الثلاثة أفضل كما هو قول الجمهور فلا إشكال كما هو ظاهر، فتبيّن أن سؤال الشريف لا موقع له، إذ خلافة الراشدين على التقديرين صحيحة.
وقد قال ابن القيم في (البدائع): (فائدة: السرُّ والله أعلم في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر وعثمان أن علياً لو تولى الخلافةَ بعد موته، لأوشك أن يقول المبطلون إنه ملك ورّث ملكَه أهلَ بيته، فصان اللهُ منصبَ رسالته ونبوته عن هذه الشبهة، وتأمل قولَ هرقل لأبي سفيان: هل كان في آبائه من ملك؟ قال: لا. فقال له: لو كان في آبائه ملك لقلتُ: رجلٌ يطلب ملك آبائه. فصان الله منصبه العلي من شبهة الـمُلْك في آبائه وأهل بيته وهذا والله أعلم هو السرُّ في كونه لم يورث هو والأنبياء قطعاً لهذه الشبهة، لئلا يظن المبطلُ أن الأنبياء طلبوا جمع الدنيا لأولادهم وورثتهم، كما يفعله الإنسان من زهده في نفسه وتوريثه ماله لولده وذريته، فصانـهم الله عن ذلك ومنعهم من توريث ورثتهم شيئاً من المال، لئلا تتطرق التهمةُ إلى حُجج الله ورسله فلا يبقى في نبوتـهم ورسالتهم شبهة).
وبتقدير وجود المخالف في بيعة أحدهم فهو خلاف نادر، وللأصوليين في اعتباره وانعقاد الإجماع دونه قولان معروفان، فالأكثر منهم أنه يقدح في انعقاده خلافاً لأبي جعفر الطبري وأبي بكر الرازي الحنفي وابن حمدان من الحنابلة، وبعض المالكية وبعض المعتزلة كأبي الحسين الخياط، وأومأ إليه أحمد، ومال إليه والد إمام الحرمين فى (كتاب المحيط) أنه ينعقد، وقيّده أبو بكر الأخشيد من المعتزلة في كتابه الذي صنّفه في الإجماع بغير مسائل أصول الدين.
واختار ابن الحاجب أنه حجة وليس بإجماع، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية في (نقده لإجماعات ابن حزم) وهو قويٌّ ولاسيما إن جرى العمل عليه كهذه المسألة التي جرى عمل المسلمين في الأمصار والأعصار على صحة خلافة الراشدين وكونـها لا نظير لها في العدل والرشد.
على أن من نازع في ذلك من السبئية والخوارج بتقدير الاعتداد بـهم فإنـما وجد نزاعهم بعد استقرار إجماع السلف الأول، وقد تقرر في الأصول أن النزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأٌ قطعاً، فكيف يعتبر بـهم وقد قاتـهلم وحرّقهم من ادّعوا فيه نصَّ الخلافة أعني عليّاً عليه السلام.؟!
وهب على التنزل أن خلافتهم لم تكن شورى ولا مشروعة وإنـما كانت اضطراراً، فأيُّ طائل من هذا الكلام وقد دانت لهم الممالك، وخضعت لطاعتهم الأمصار، وفتحوا الفتوحات التي دخل الناس بـها في دين الله أفواجاً، وساد العدل وخمد الجور وأهله، فحيهلا بحكم يأتي بعشر معشار ما جاء به الراشدون من العدل والخير، ولا عليه أن لا يكون مشروعاً أو شوريّ ولا ضير.!
فالـكلام في مشروعية إمارتـهم وكونـها شورى، صيحة في واد، ونفخة في رماد.
وبه يقع الجواب عن سؤاله هل وقع العمل بالشورى في تاريخ الحكم في الإسلام، ويظهر بطلان دعواه أن خلافتهم كانت بالتغلّب، فأبو بكر بويع له بالنص كما مرّ، وعمر بالتعيين الذي لم ينازع فيه أحد لا عليّ ولا غيره، وعثمان باختيار الكافة له دون عليّ كما قاله عبد الرحمن بن عوف المشهود له في خبر الـمعصوم بالجنة، حتى قال الإمام أحمد في رواية حمدان: (ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم) ثم بيعة عليٍّ بـمُابيعة أهل الحق له، وحتى معاوية لم ينازع عليّاً الخلافةَ لعلمه بأنه أحقّ بـها منه، وإنـما اشترط لـمبايعته الثأرَ من قتلة عثمان، بقطع النظر عن صواب شرطه أو خطئه، ثم كان عام الجماعة بعد ذلك.
وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قطع بأن خلافة الراشدين خلافة على منهاج النبوة فلا قول لأحد بعده، كما أخبر بذلك في حديث مولاه سفينة الصحيح وقد وقع كما أخبر، وهو ظاهر جداً في الشهادة لخلافتهم على أنـها خلافة صحيحة بلا شبهة، ولم تكن بالاستبداد أو التغلّب كما زعم الشريف، ولم يقع في التاريخ خلافة يصدق عليها خبرُ سفينة أنـها على منهاج النبوة مثل خلافة الراشدين، فضلاً عن مطابقتها له في العدد كما هو معلوم.
وأيّ تغلّب بالله عليك وعثمان رضي الله عنه هو من أبى أن يقاتل عنه الصحابة ويدفعوا خروجَ الأوباش عليه، حتى رضي أن يُقتل ولا يُسفك دم مسلم بسببه في حرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.!؟
أم أيُّ تغلّب هذا والحسن عليه السلام هو من آثر جماعة المسلمين وحقْنِ دمائهم على ولايته فنزل عنها لـمعاوية.!؟
فهل يقال بعد هذا ما أطلقه الشريف جزافاً من أنه لا يوجد في التاريخ أنـموذج يحتذى في الخلافة الصحيحة.؟! وقد علم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أزهد الناس في الدنيا وأحرص على الاخرة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: (أَنْتُمْ أَكْثَرُ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ). قَالُوا: وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: (لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَأَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ).
وذكر الحافظ أبو نعيم في (الحلية) عن الحسن قال: (لقد أدركتُ ناساً من صدر هذه الأمة، كانوا والله على الدنيا وهي مقبلةٌ، أشدَّ إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة).
وقوله هل كان هناك خيار لأحد أن لا يبايع أمام العقل الجمعي المسكون بالطاعة المطلقة للخليفة.! فمن العجب أن يخرج منه مثل هذا السؤال الفاسد، فإنه لا يُعلم في تاريخ الإنس والجنِّ مجتمع كالصحابة في إنكار المنكر، وردّ الباطل، ومنع ظلم الحكام وجورهم، والمجاهرة بالحق، والوقائع في دواوين السنن والآثار في هذا المعنى عنهم لا تحصى، ولا أظنها على الشريف تخفى، بل لا يـمنعهم مانع من إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومخالفة بلال وأصحابه لأمير ‍المؤمنين عمر في سواد العراق حتى ماتوا على ذلك تعرفه المخدرات في خدورهن، وخلاف فاطمة عليها السلام للصدّيق في قسمة ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ماتت على ذلك، وخلاف عمر له في قتال الـمرتدين حتى ناظره وانكشف الحق لعمر فرجع لقول أبي بكر.
وخلاف عليّ لعثمان في متعة الحج، وخلافه هو والصحابة لعثمان في القصر بـمِنى حتى قال ابن مسعود: (ليت لي من صلاتي هذه ركعتان متقبلتان). وخلاف ابن عباس لعليّ في تحريق الزنادقة حتى قال ابن عباس حين بلغه تحريقهم: (لو كنتُ أنا ما حرقتهم لأنه لا يعذّب بالنار إلا ربـها) فقال عليٌّ: (ما أسقطه على الهنات).
وقال أعرابيٌّ لعمر: (إن اعوججت قومناك بالسيف) وعلى الجملة فالآثار عنهم في هذا المعنى أكثر وأشهر من أن تستقصى في هذا المختصر.
فالعقل الجمعي الـمسكون بـما ذكره الشريف إنـما هو في غيرهم ممن جاء بعدهم وغيّر وبدّل، وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعقولـهم غاية في الاستقامة، وأذهانـهم صحيحة جداً، وفي (كتاب مسلم) أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ) فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ).
فأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أعلم الناس بالله وبكتابه ورسوله وأنصح الناس للأمة، وأشدّ الناس قياداً لقوله عليه السلام: (إنـما الطاعة في المعروف) وقوله: (لا طاعة لـمخلوق في معصية الله).

فصل
قال الشريف: (وهل التغلب بالسيف وقتل بعضهم في سبيل الوصول للسلطة، يـمنح المشروعية للقاتل ويجعله حاكماً شرعياً تجب طاعته، ويحرم الخروج عليه تديناً أو اضطراراً لحقن الدماء.؟).
فيقال: إن قصد بـهذا ولاية الصحابة كما زعمه الشريف فليس فيهم من تغلّب بالسيف سوى معاوية الذي غلب على بلاد الشام وامتنع بـها، وابن الزبير المتغلّب على العراق والحجاز، وقد مرَّ الجواب عن هذا وأنَّ ولاية الراشدين كانت عن بيعة مشروعة وشورى صحيحة ولم تكن بالغلبة، ولايقدر من ادعى كونـها متغلّبة على إقامة دليل عليه، سوى أكاذيب من رواية الروافض تتضمن الإزراء بالصحابة ولاسيما عليّ عليه السلام، ولا عبرة بـمرويات قوم رأس مالهم البهت والوقيعة في السلف.
وللناس في ولاية الـمتغلب قولان هما روايتان عن أحمد، فالجمهور على أنه لا تصح ولايتُه ولا تجب طاعتُه، وذهب العراقيون من الشافعية وأحمد في رواية عبدوس والمروزي إلى صحتها، فإنه قال: (من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير ‍المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أو فاجراً) وقال أيضاً في رواية أبي الحارث في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم فقال أحمد: (تكون الجمعة مع من غلب). واحتج بأن ابن عمر صلّى بأهل المدينة زمن الحرة وقال: (نحن مع من غلب).
وهذا كما قاله الشريف اضطراراً لحقن الدماء، وإلا فلا ولاية له ولا طاعة على الحقيقة، إلا إن اجتمعت فيه شروط الولاية كالقرشية والشوكة والقدرة على إقامة العدل والـمعرفة بالسياسة والبصر بأمر الحرب وغير ذلك، ولـهذا صحت ولاية ابن الزبير الذي تغلّب على الحجاز والعراق، وولاية معاوية المتغلب على الشام.
والعجب من نَـبْـزِ الشريف للسلف بذلك وقد علم أن بقية الناس وفضلاءهم وعلماءهم خرجوا على الحجاج وجوره مع ابن الأشعث لإقامة العدل وإبطال الظلم وإنكار المنكر، كالحسن وابن سيرين وسليمان ومسلم ابني يسار وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد وأبي الجوزاء الربعي وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وعطاء بن السائب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ممن فُقد ولم يوجد له أثر، كما ذكره الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب صنّفه في المفقودين.!
وخرج معهم الشعبي وكان يقول: (قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة).
وخرج ابن الزبير والحسين على يزيد، وخرج أهل المدينة من أبناء الصحابة على يزيد يوم الحرة، وخرج أهل العلم على أبي جعفر ال‍منصور مع النفس الزكية منهم عباد بن العوام وهشيم ويزيد بن هارون وغيرهم وكان أبو حنيفة يأمر بالخروج، وأنكر مالك على من سمّاهم خوارج.
وخرج أحمد بن نصر الخزاعي وأصحابه على المأمون فقُتلوا وكان الإمام أحمد يسميه الشهيد، وغير ذلك مما هو مبسوط في مطولات الدواوين التاريخية، فكيف يقال إن عقلهم الجمعيّ لا خيار أمامه إلا البيعة والطاعة المطلقة.!
كتبه
أبو جعفر
بلال فيصل البحر
تركيا / زونكلداك / أريغلي
في الخامس عشر من محرّم الحرام / 1437

منذ 9 أعوام و 6 شهور
بلال فيصل البحر

إصلاحُ غَلَط الكُتَّابِ والمحققينْ في تراجِم الأعلامِ والمـُصَنِّفينْ

بسم الله الر حمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين, وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...وبعد:
فإن التنبيه على أوهام المصنفين وإصلاح الغلط الواقع في آثار المؤلفين, من أمانة العلم, وهو من جملة الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَه) (آل عمران 187).
ولم يزل من عادة العلماء أن يتعقب بعضهم بعضاً بالردّ والتصحيح, يرون ذلك ديناً ونصيحة لا ينبغي كتمانها, حتى قال الأوزاعي وذُكر له ردّ العلماء على بعضهم: (بمثل هذا يتفقه الرجل).
وقد صنف العلماء كثيراً في هذا المعنى, فمن ذلك (إصلاح غلط أبي عبيد) للقُتبي, وللخطّابي (إصلاح غلط المحدثين) وكالحافظ أبي بكر الخطيب في (الموضح) فإنه تعقب الكبار كالبخاري وابن وارة ونظرائهما, ولابن ناصر الدين الدمشقي (الإعلام بما في مشتبه الذهبي من الأوهام) وغير ذلك مما يطول استقصاؤه.
وصنف الحفاظ كالأمير ابن ماكولا وأبي بكر بن نقطة وأبي سعد السمعاني والذهبي وابن حجر وغيرهم تصانيف في تمييز ما يشتبه من الأعلام, وتصحيح أنسابهم وتوضيح ألقابهم, لئلا يغلط فيهم من لا أُنسَ له بهذا الشأن, ولا دراية عنده بهذا الفن.
ومن العلماء من كان يُنبّبه على الغلط ويصلحه حال الدرس والمطالعة, فيُعلِّق في نسخته بقلمه ويُنبّه على وجه الصواب, لئلا يغتّرّ به من يطالعه ممن بعده فيقع له الغلط, وقد ذكر القاضي عياض في (الإلماع) (186) أن أهل المعرفة من أهل العلم كانوا ينبهون على الخطأ عند السماع والقراءة, وفي حواشي الكتب, ويقرءون ما في الأصول على ما بلغهم..قال: (ومنهم من يجسر على الإصلاح, وكان أجرأهم على هذا من المتأخرين القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني الوَقَّشّيُّ, فإنه لكثرة مطالعته, وتفننه في الأدب واللغة وأخبار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم, وثقوب فهمه وحدّة ذهنه, جسر على الإصلاح كثيراً, وربما نبّه على وجه الصواب, لكنه ربما وهم وغلط في أشياء من ذلك, وتحكّم فيها بما ظهر له أو بما رآه في حديث آخر, وربما كان الذي أصلحه صواباً, وربما غلط فيه وأصلح الصواب بالخطأ).أ.ه
وقد رأيتُ حال المطالعة أوهاماً وأغلاطاً تقع لمحققي كتب التراث والمخطوطات والمؤلفين سواء, يقلّد بعضهم بعضاً في الخطأ, فعلّقتُ من ذلك شيئاً كثيراً, واجتمع عندي منه ما رأيتُ أنه يحسن التنبيه على بعضه في جزء مفرد.
ولاسيما مع كثرة من ولج هذا الباب, وجسر على الاشتغال بتحقيق وضبط الكتب, ممن ليس بأهل لذلك, واتخذوا من تحقيق كتب التراث والمخطوط ولاسيما الحديث, حرفة يقصدون بها جمع المال, مصداق قول ابن الجوزي (علم الحديث صنعة الكسالى والمفاليس), وما أكثرهم بمصر حتى إنه ليصدق عليهم مقالة أبي عبيدة معمر بن المثنى (يا أهل مصر إن البغاث بأرضكم يستنسر), وشاهدنا من ذلك المضحك المبكي كما قال أبو الطيب المتنبي:
وماذا بمصرَ من المُضحكات.....ولكنه ضحكٌ كالبُكا
وأكثرهم حتى من كان منهم متقناً إنما يؤتى ويقع له الوهم الفاحش من جهة الحرص على الفانية وجمع حطامها, فإنه يروم إخراج أكبر قدر يُمكنه من الكتب للطبع لأجل المال, فيضطرُّه الجشع إلى الاستعانة بمن انتدب لهذا العمل من المفاليس, حتى فسدت الكتب وامتلأت بالجهالات, وقد رأيتُ بالقاهرة عامياً كان يعمل في دكانٍ لبيع الدجاج, فلما وقع المرض المشهور بـ(إنفلوانزا الطيور) أفلس, ثم رأيته بعدُ يعمل في تحقيق الكتب مع بعض من انتسب إلى التحقيق من المشاهير!
ورأيتُ بعض هؤلاء في مكتبة عامة بالقاهرة قد أجهد نفسه وأتعبها في تخريج حديث ولم يقف له على أثر, حتى اعتراه ملل وكلل أفضى به إلى سؤالي, قال لي: جهدتُ في استخراج حديث (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى شاه شاه) قال: قرأتُ باب الزكاة في ‍غالب المسانيد والسنن فلم أقف عليه!.
و‍غالب هذا الصنف لايدري الواحد منهم فنَّ التحقيق, ولا أخذوا صنوف العلم على الشيوخ, وهجموا على هذه الصناعة قبل استحكام أدواتها, واستجماع شروطها وآلاتها, فلا تعجب من أوهامهم وقبيح أغلاطهم, مصداق قول ابن مسعود رضي الله عنه (تفقهوا فإن أحدكم لا يدري متى يُختلُّ إليه) أي: يحتاج إليه, ومنه قول بعض السلف (تفقهوا قبل أن تسوّدوا).
فهذا محقق (المسند) في طبعة دار الحديث بالقاهرة, زعم أنه يتمم ما كان ابتدأه محدث مصر العلامة أحمد شاكر, وليته لم يفعل, فقد أفسد الكتاب وملأه بالأغلاط التي لو استقصاها الباحث لجاءت في مجلد, وقد رأيته في كل حديث يحدّث به أحمد عن ابن إدريس يترجمه بالشافعي, حتى كثر عنده أحاديث أحمد عن الشافعي, مع أن المعروف عند أصحاب الحديث أن أحمد لم يروِ عن الشافعي في المسند إلا نحواً من بضعة عشر حديثاً, ذكر الحافظ ابن كثير أنه أفردها في جزء, ومن عادة أحمد أنه يصرّح باسم الشافعي إذا روى عنه.
ومنه أن القرافي ساق في أول (نفائس الأصول) مصادرَ كتابه, فذكر منها (الواضح) وهو إما لابن عقيل الحنبلي, أو لأبي يوسف القزويني المعتزلي, والأول أرجح لأنه ذكره بعد (العُدة) لأبي يعلى كأنه يذكر موارده ومواد كتابه في أصول الحنابلة, وقد تصحف ابنُ عقيل على من حقق الكتاب إلى أبي عبيد, فترجموه بأبي عبيد القاسم بن سلّام, وهو غلط لا يمكن معه إلا أن نشك أن يكون عادل عبد الموجود وعلي معوض قد طالعا الكتاب أصلاً! فضلاً عن أن يكونا قد اشتغلا بتحقيقه ونسخه ومقابلة أصوله! هذا عدا كونهما من الدخلاء على هذه الصناعة, فإن أبا عبيد لم يُصنِّف في أصول الفقه, ولا يوجد عنه نقل في مسائل الأصول المحضة, ولا نقل عنه القرافي من كتاب الواضح هذا موضعاً واحداً, وإنما يقع ذكر أبي عبيد في كتب الأصوليين في زوائد المباحث التي تتعلق بالكتاب ال‍عزيز, على أنهما صحفا (العُدة) لأبي يعلى فكتباه (العمدة)!.
وهذا الهمط والخرط في مصر التي كانت دار المحققين وأهل الخبرة والمعرفة التامة بصناعة التحقيق, كآل شاكر وهارون وعبد الباقي ونظرائهم, فلله الأمر.
أفلا يشمل هؤلاء المفاليس والصعافقة عموم الوعيد في قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة 79) وهذا اللحن الفاحش والغلط القبيح هو دون ريب من الكذب على الشارع, وأقبحه ما كان كذباً على الله ورسوله ثم على أهل العلم.
لكن الامر كما قال المتنبي:
ومن البلية عذلُ من لا يرعوي...عن غيّه وخطابُ من لا يفهمُ
والواجب على المسئولين في هيئة الرقابة على الطبع والنشر, ومن يتعيّن عليه القيام على أمور العلم وكتبه كالأزهر ونحوه, التصدي لهؤلاء العابثين, ومنعهم من الاشتغال بهذه الصناعة الشريفة, صيانة للعلم وأهله.
وهذا التقييد إنما يعنى بتعقب ماوقع لبعض الفضلاء من المحققين والمؤلفين من الوهم والغلط في ضبط الأسماء وتراجم الرجال ونحو ذلك, من غير تقصٍ أو استيعاب, وإنما أذكر ما يعنُّ لي مما قيّدته في حواشي كتبي حال المطالعة, وهو شئ كثير يطول شرحه, ولست أذكر منه هنا إلا ما تدعو الحاجة إليه, وربما نبّهتُ على من وقع له الغلط في ذلك وربما أغفلتُ ذكره, والأمر لايزال بحاجة إلى تصنيف مبسوط.
وليس من شأن العقلاء الإعراض عن تصويب الخطأ والإشاحة عن استدراكه, ولا يعدُّ عندهم انتقاصاً أن يؤخذ الواحد منهم بوهم أو يُتعقب عليه في غلط, فمن الذي يسلم من ذلك, وقد قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها...كفى المرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه
وقال الإمام الحافظ الحجة أبو محمد بن حزم في (رسائله) (4/337): (قد يخطئ الفاضل ما لم يكن معصوماً, ولو أن ذلك الفاضل لاح له ما لاح لك لرجع إليك, ولو لم يفعل لكان غير فاضل, وأخبرك بحكاية لولا رجاؤنا في أن يسهل بها الإنصاف على من لعله ينافره ما ذكرناها، وهي: أني ناظرت رجلاً من أصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء (أي: عيب) كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب, فوجدت برهاناً صحيحاً يبيّن بطلان قولي, وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرّفته بذلك، ثم رآني قد علّمت على المكان من الكتاب، فقال لي ما تريد؟ فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان, وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل, وأني راجع إلى قوله, فهجم عليه من ذلك أمر مبهت وقال لي: وتسمح نفسك بهذا! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخرّته إلى غد, واعلم أن مثل هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله, ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك ‍غالب، أو توهم من حضرك ممن يغترّ بك ويثق بحكمك أنك ‍غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيساً وضيعاً جداً, وسخيفاً البتة وساقط الهمة, وبمنزلة من يوهم نفسه أنه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له إنك أبيض مليح وهو أسود مشوّه، فيحصل مسخرة ومهزأة عند أهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق, واعلم أن من رضي بهذا فهو مغرور, وسبيله سبيل صاحب الأمانيّ, فإنها بضائع النوكى؛ والمغرى بها يلتذ بها, حتى إذا ثاب إليه عقله ونظر في حاله, علم أنه في أضاليل, وأنه ليس في يده شيء).أ.ه
على أن الفاضل مهما عظم في العلم شأنه, واحتدّ فيه ذهنه, واتّسع فيه اطّلاعه, واستطال فيه باعه, لايسلم فيه من الغلط, ويقع له فيه الوهم في الشئ بعد الشئ, مما لا يعاب به عند العقلاء والكملة, ويخفى عليه من العلم ما لو تأمله لاستيقن أنه فوق ما علمه.
وقد ذكر التاج ابن السبكي في ترجمة الغزالي الكبير من (الطبقات) (4/87) أن هذا الرجل قد وقع الخبط في أمره, وجهل أَكثر الخلق حاله, قال: وأول بحثي عن ترجمته لما كنت أَقرأ (طبقات الشيخ أبي إِسحاق) على شيخنا الذهبي, مررت بقوله: (وبخراسان وفيما وراء النَّهر من أَصحابنا خلق كثير, كالأودني وأبي عبد الله الحليمي وأبي يعقوب الأبيوردي وأبي عليّ السنجي وأبي بكر الفارسِي وأبي بكر الطوسي وأبي ‍منصور البغدادِي وأبي عبد الرحمن السُّلمي وناصر المروزي وأبي سليم الشَّاشي والغزالي وأبي محمد الجويني وغيرهم ممّن لم يحضرني تاريخ موتهم).قال: وقد سأَلت شيخنا الذَّهبِيّ حالة القراءَة عليه: من هذا الغزالي؟! فقال: (هذا زيادة من النَّاسخ, فإنَّا لا نعرف غزالياً غير حجة الإِسلام وأخيه, ويبعد كل البعد أَن يكون ثمَّ آخر, لأَن هذه نسبة غريبة يقلّ الِاشترَاك فِيها, قال: ويبعد أَن يريد حجة الإِسلام إِذ هو مثل تلامذته, وأَيضاً فإِنه لم يذكر من أقرانه أحداً كإمام الحرمين وابن الصباغ وغيرهما, فكيف يذكر من هو دونهم؟! وأَيضاً فإنه ذكره قبل الشيخ أبي محمد, والشيخ أَبو محمد شيخ شيخ الغزالي, فإِنه شيخ ولده إِمام الحرمين شيخ الغزالي, فكل هذا مما يمهد أَنه لم يرد الغزالي). فقلت له إِذ ذاك: وثمّ دليل آخر قاطع على أَنه لم يرد أَبا حامد حجة الإِسلام, فقال: ما هو؟ فقلت: قوله لم يحضرني تاريخ موتهم, فإِن هذا دلِيل منه على أَنهم كانوا قد ماتوا, ولكن ما عرف تاريخ موتهم, وحجة الإِسلام كان موجوداً بعد موت الشيخ, قال صحيح. ثمَّ ذكرت ذلك لوالدي الشيخ الإِمام تغمده الله برحمته فذكر نحواً مما ذكره الذهبي, وتمادى الأَمر وأَنا لا أَقف على نسخة من (الطبقات) وأكشف عن هذه الكلمة إِلَّا وأجدها فأزداد تعجباً وفكرة, ثمَّ وقعتْ لي نسخة عليها خطّ الشيخ أبي إِسحاق وقد كتب عليها بأَنَّها قُرئت عليه, فألفيتُ هذه اللفظة فيها, ثمَّ وقفتُ فِي تعليقة الإِمام محمد بن يحيى صاحب الغزالي, في الزكاة في مسأَلة التّلف بعد التمكُّن, أَنه ألزم شافعي فقيل له: أَليس لو تلف النصاب قبل التمكُّن من الأَداء سقطت الزكاة؟ فكذلك بعد التمَكُّن, بخلاف ما لو أتلف فإِنَّها لا تسقط, فقال: مسأَلة الإِتلاف ممنوعة لا زكاة عليه ولا ضمان, وأُسندَ هذا المنع إلى الغزالي القدِيم والشيخ أبي عليّ, تفريعاً على أَن الزكاة إِنما تجب بالتمكن, ثمَّ وقفتُ في (كتاب الأَنساب) لابن السمعاني في ترجمَة الزَّاهد أبي عليّ الفارمذي على أَن أَبا علي المذكور تفقه على أبي حامد الغزالي الكبير, فلما وقفتُ على هذين الأَمرين سُرَّ قلبي وانشرح صدري, وأيقنتُ أَن في أَصحابنا غزالياً آخر, فطفقتُ أبحث عنه في التواريخ فلا أَجده مذكوراً, إِلى أن وقفتُ على ما انتقاه ابن الصلاح من كتاب المَذهب في ذكر شيوخ المذهب للمطوّعي, فرأيته أَعني المطوعيَّ قد ذكر أَبا طاهر الزيادي وعظّمه, ثمَّ قال: وتخرج بدرسه من لا يُحصى كثرة كأبي يعقوب الأبيوردي صاحب التصانيف السائرة والكتب الفائقة الساحرة وذكره, ثمَّ قال وكأبي حامد أحمد بن محمد الغزالي الذي أذعن له فقهاء الفريقين وأقرَّ بفضله فضلاء المشرقين والمغربين, إذا حاور العلماء كان المُقدم, وإن ناظر الخصوم كان الفحل المقرّم, وله في الخلافيات والجدل ورءوس المسائل والمذهب تصانيف, فازددتُ فرحاً وسروراً وحمدتُ الله حمداً كثيراً, وقد وافق هذا الشيخ حجة الإِسلام في النسبة الغريبة والكنية واسم الأَب, ثمَّ بلغني أَنه عمُّه, فقيل لي: أخو أَبيه وقيل: عمّ أَبيه أَخو جده, ثمَّ حكى لي سيدنا الشيخ الإِمام العلامة ولي الله جمال الدين عُمدة المحققين محمد بن محمد بن محمد الجمالي حيَّاه الله وبياه وأمتع ببقياه, أن قبر هذا الغزالي القديم معروف مشهور بمقبرة طوس, وأَنَّهم يسمونه الغزالي الماضي).أ.ه
ومن ذلك أن الحافظ السمعاني ذكر في ترجمة الجريري من (الأنساب) (3/264) أنه نسبة إلى اتّباع مذهب ابن جرير الطبري, وذكر أن منهم أبا إسحق الجوزجاني قال: وكان جريري المذهب ولم يكن بداعية, فتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه غلط صوابه حريزي بالحاء المهملة بعدها راء ثم ياء ثم زاي, نسبة إلى حريز بن عثمان وكان ناصبياً, وكذلك كان الجوزجاني, وكيف يكون الجوزجاني على مذهب ابن جرير وهو في عداد شيوخه!؟ ذكره السخاوي في (الجواهر) (1/379).
ونظيره أن جماعة من الشافعية منهم ابن الرفعة توهموا أن داود بن علي الظاهري شيخ للشافعي, لأنهم وقفوا على نصوص له يحكي فيها مذهب داود كقوله (أفرط في العقيقة رجلان أحدهما قال بوجوبها وهو داود, والاخر قال ببدعتها وهو أبو حنيفة) وليس كذلك فإن داود بن علي الظاهري ولد قبل وفاة الشافعي بسنتين, وإنما هو داود بن عبد الرحمن العطار شيخ الشافعي بمكة كما نبّه عليه الزركشي في (البحر المحيط) (6/426-427) وابن السبكي في (الطبقات) (2/291), وقد بسطنا الكلام على ذلك في ترجمة داود من (طبقات الظاهرية).
ومنه أن الجلال السيوطي ذكر في (المزهر) (1/73) حكاية بيع الفالي بالفاء الموحدة, نسخةً مجوّدة من (كتاب الجمهرة) لابن دريد, لكنه غلط وتصحف عليه الفالي بالقالي بالقاف المثناة, وزاد هو من عنده أبا علي كنية القالي, وتبعه على ذلك جماعة من الفضلاء منهم الدكتور محمد الزرّوق في تقدمته لمقالة الأستاذ الشيخ عبد اللطيف الشويرف الموسوم بـ(مكتبتي).
وإنما هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سلّك الفالي كما حكاه ياقوت في (الأدباء) (4/1646) عن أبي زكرياء التبريزي قال: رأيت نسخة من (كتاب الجمهرة) لابن دريد باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير من القاضي أبي بكر ابن بديل التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسختُ أنا منها نسخة، فوجدتُ في بعض المجلدات رقعة بخط الفالي فيها:
أنسِتُ بها عشرين حولاً وبعتها...فقد طال شوقي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي أنني سأبيعها......ولو خلّدتني في السجون ديوني
ولكن لضَعْفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ......صغارٍ عليهم تستهلُّ شؤوني
فقلت ولم أملكْ سوابقَ عَبرة........مقالةَ مشويِّ الفؤاد حزين
(وقد تـُخرجُ الحاجاتُ يا أمّ مالك....كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضنينِ)
فأريتُ القاضيَ أبا بكر الرقعةَ والأبياتَ فتوجع وقال: لو رأيتُها قبل هذا لرددتُها عليه، وكان الفالي قد مات.
قال ياقوت: والبيت الأخير من هذه الأبيات تضمين, قاله أعرابيّ في ما ذكره الزبير بن بكار عن يوسف بن عياش قال: ابتاع حمزة بن عبد الله بن الزبير جملاً من أعرابي بخمسين ديناراً ثم نَقَدَه ثمنَه، فجعل الأعرابيُّ ينظر إلى الجمل ويقول:
وقد تـُخرجُ الحاجاتُ يا أمّ مالك....كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضنينِ
فقال له حمزة: خذ جملك والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير.
وقد نبَّه ياقوت على أنه الفالي بالفاء لئلا يشتبه بالقالي, وذكر أن له شعراً حسناً يضّمنُ فيه الأبيات السائرة, منه الأبيات الذائعة:
تصدر للتدريس كلُّ مهوّس....بليدٍ تسّمى بالفقيه المدرِّسِ
فحُقَّ لأهل العلم أنْ يتمثلوا....ببيتٍ قديم شاعَ في كلّ مجلسِ
(لقد هزلتْ حتى بدا من هزالها...كلاها وحتى سامها كلُّ مفلسِ)
ومنه قوله:
لمـّا تبدلت المنازلُ أوجهاً...غير الذين عهدتُ من علمائها
ورأيتُها محفوفةً بسوى الأُلى.....كانوا ولاةَ صدورها وفنائها
أنشدتُ بيتاً سائراً متقدماً...والعينُ قد شَرَقَتْ بجاري مائها
(أما الخيامُ فإنها كخيامهم...وأرى نساءَ الحيّ غير نسائها)
فتأمل كيف أن هذا وشبهه من الأغاليط والأوهام يقع للكبار ولا يكاد يسلم منه أحد, وهو شئ كثير يطول شرحه وتتبعه ويعسر تقصيه, وقد قال البويطي فيما رواه أبو عبد الله بن شاكر في (مناقب الشافعي): سمعتُ الشافعيَّ يقول: لقد ألفتُ هذه الكتب ولم آلُ فيها, ولابدّ أن يوجد فيها الخطأُ, لأن الله تعالى يقول (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (النساء 82) ذكره السخاوي في (المقاصد) (15).
وقال المزني: (لو عورض كتاب سبعين مرة لوجد فيه خطأ, أبى الله أن يكون كتاب صحيحاً غير كتابه).
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: (عارضت بكتاب لأبي ثلاث عشرة مرة, فلما كان في الرابعة خرج فيه خطأ, فوضعه من يده وقال: قد أنكرتُ أن يصح غير كتاب الله عزوجل) خرّجهما الخطيب في (الموضح) (1/14).
وقد ذكر الزبيدي في (مقدمة شرح الإحياء) (1/3) وأبو الطيب القنوجي في (الحطة) (32) أن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كتب إلى العماد الكاتب الأصبهاني يقول: (إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن, ولو زيد كذا لكان يستحسن, ولو قُدّم هذا لكان أفضل, ولو تُرك هذا لكان أجمل, وهذا من أعظم العبر, وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر).
وأنشد السخاوي في (المقاصد) لبعضهم:
كمْ من كتابٍ تصفّحتُه.....وقلتُ في نفسيَ أصلحتُهْ
حتى إذا طالعتُه ثانياً......وجدتُ تصحيفاً فصححتُهْ
واعلم أن أهل كل فنٍّ اصطلحوا في مصنفاتهم على إطلاق ألقاب اشتهر بها بعض أعلام الفن, ولزمتهم فغلبت عليهم، بحيث إذا أُطلقت عندهم انصرفت إلى معهود لايُختلف عليه بينهم، مما يستدعي التنبيه على ذلك لئلا يتوهم فيهم من لايدري اصطلاحهم.
فإذا أُطلق لقب (الشيخ) فالمراد به عند الأصوليين والمتكلمين إمام النظار أبو الحسن الأشعري (324) نور الله مرقده, وقد رأيتُ بعض الدارسين من طلبة الدكتوراه غلط في ترجمته وأبعد النُّجعة, فترجمه بأبي الحسن العبّادي الشافعي, منهم الدكتور أيمن حمزة في رسالته عن القواعد الأصوليية عند شيخ الإسلام ابن تيمية.
والشيخ عند الشافعية أبو حامد الإسفراييني (406), وهم يقيدونه بالشيخ أبي حامد, وقد رأيت بعضهم اشتبه عليه فترجمه بالغزالي, وعند المناطقة الرئيس أبو علي بن سينا (428), ويطلق عند المالكية على أبي محمد بن أبي زيد (386) صاحب (الرسالة), وعند الحنابلة لقب أبي محمد بن قدامة مصنف المغني, ويطلقه متأخروهم كالمرداوي والسفّاريني على ابن تيمية الحفيد شيخ الإسلام, وقد نبَّه الأول في آخر (مختصره الأصولي) على ذلك.
والشيخان عند الشافعية أبو القاسم الرافعي (623) وأبو زكريا النووي, وعند المالكية ابن أبي زيد وأبو الحسن القابسي (403), وعند الحنابلة الموفق ابن قدامة والمجد ابن تيمية (652), وأما الحنفية فيطلقونه على الإمام ومحمد إذا اجتمعا على قول.
وقد رأيتُ محقق (مغني المحتاج) للخطيب الشربيني في طبعة دار المعرفة ببيروت, تعقب الخطيبَ في نقله عن الشيخين بأنه لم يقف على هذا النقل في (الصحيحين)! وإنما أراد الرافعيَّ والنوويَّ, لكنه تعثّر فيه ضالاً عن وجه الصواب لعدم درايته.
وإذا أُطلق (القاضي) عند الأصوليين والمتكلمين من الأشعرية, وحواشي تفاسير المتأخرين كالبيضاوي والكشاف, فهو لسان الأمة وسيف السنة أبو بكر بن الباقلاني (403) طيّب الله ثراه, لكنْ إذا أطلقه الفخر الرازي في (تفسيره) فهو قاضي المعتزلة عبد الجبار الهمذاني, كما قيّده ابن التمجيد في (حاشيته) وقد اشتبه على بعض المصنفين في التفسير, فترجمه بالقاضي الباقلاني وليس كذلك.
ولقب (القاضي) عند الحنابلة في الفقه والأصول والنظر يطلق على أبي يعلى, وعند متأخريهم هو أبو الحسن المرداوي (885) مُنقّح المذهب، وهو ومن قبله من الحنابلة يطلقونه في أصولهم على القاضي أبي يعلى لا الباقلاني, وقد اشتبه هذا الإطلاق على بعض الكبار منهم الأستاذ الدكتور مصطفى زيد رحمه الله في كتابه الكبير الذي صنفه في النسخ, فإنه نقل في تعريف النسخ بواسطة المرداوي في مختصره الأصولي المسمى بـ(تحرير المنقول) عن القاضي وعرّفه بالباقلاني, وإنما هو أبو يعلى كما قيّده المرداوي في (التحبير), وهو شرحه على مختصره الأصلي.
والقاضي عند العراقيين وابن الرفعة في (الكفاية) و (المطلب) من الشافعية, أبو الطيب الطبري، وعند الخراسانيين والمراوزة منهم, لقب حسين المروروذي (462) مصنف (التعليقة)، ويطلقه المتوسطون من فقهاء المذهب على القاضي أبي حامد المروروذي (362),كما أفاده النووي في (التهذيب) وابن السبكي في (طبقاته).
وعند المعتزلة في مؤلفاتهم هو عبد الجبار، ويطلقه النووي في (شرح مسلم) على القاضي عياض (544), ويطلقه الإمامية على ابن البرّاج وهو عبد ال‍عزيز بن نحرير مصنف (الجواهر) من إمامية الشام وكان قد ولي قضاء طرابلس وتوفي 481.
والقاضيان عند الأصوليين: أبو بكر بن الطيب الباقلاني قاضي السنة, وعبد الجبار الهمذاني قاضي المعتزلة (415) وعند المالكية أبو الحسن بن القصار (397) وصاحبه القاضي عبد الوهاب البغدادي, ويطلقه أصحاب الشافعي على الروياني (501) والماوردي (450).
وإذا أطلق (الأستاذ) فهو سيف المناظرين أبو إسحاق الإسفراييني (418) رحمه الله, لكنَّه عند المالكية لقب أبي بكر الطرطوشي (520)، وعند الحنفية هو أبو محمد الحارثي السَّبْذَموني (340) كما ذكر اللكنوي في ذيل (طبقات الحنفية).
وإذا أطلق (الإمام) عند الأصوليين والمتكلمين فهو كبير الحكماء والأذكياء أبو عبد الله الفخر الرازي (606) رحمه الله, والإمام عند الفقهاء من المالكية أبو عبد الله المازري، وعند فقهاء الشافعية إمام الحرمين الجويني، وعند الحنفية إمام الحرمين لقب أبي المظفر يوسف الجرجاني القاضي كما أفاده الشيخ أحمد الحموي في (شرح الأشباه والنظائر) لابن نجيم.
والفخر عند الحنفية هو البزدوي (482), وعند بعض المتأخرين الرازي, وعند الحنابلة هو إسماعيل البغدادي (610), ولذا نبّه عليه المرداوي في مقدمة (مختصره الأصولي) وخاتمته لئلا يشتبه بالأولين, وقد وقع هذا الإشتباه للإمام العلامة المحقق شمس الدين بن مفلح, فإنه ذكر في (أصوله) عند الكلام على مسألة تعارض الخبر والقياس قولاً وعزاه لصاحب المحصول, فتعقبه محققُه الدكتور فهد السدحان بأنه لا يُعرف عن الفخر الرازي, وإنما هو قول الفخر البزدوي, ولعل ابن مفلح وجد هذا القول معزواً في بعض كتب الأصول للفخر من غير تقييد فتوهم أنه الرازي.
.وأما لقب شيخ الإسلام: فقد ذكر السخاوي في كتابه الذي أفرده في ترجمة الحافظ ابن حجر, أنه يطلق على ما اُستُقرئ من صنيع المتأخرين على المتّبع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مع المعرفة بقواعد العلم, والتبحر في الاطلاع على أقوال العلماء, والتمكن من تخريج الحوادث على النصوص, ومعرفة المنقول والمعقول على الوضع المرضي.
وذكر الدكتور علي جمعة في (المدخل الفقهي) له أن لقب شيخ الإسلام يطلق على من تصدر للإفتاء وحل المشكلات كشيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب المغني, ونقل عن اللكنوي أنه صار يطلق على من تولى منصب الفتوى وإن عري عن العلم والتقوى.
ونقل الدكتور سعد فهمي في مقدمة كتابه الذي جمع فيه أسماء من أُطلق عليه هذا اللقب من أهل العلم وتراجمهم, أنه كان يطلق على كل من تولى قضاء القضاة,كشيخ الإسلام زكريا الأنصاري والغزي وغيرهما.
وأفاد السخاوي أن الحافظ أبا الحجاج المزي كان لايثبت هذا اللقب لأحد من أهل عصره إلا لابن تيمية وابن أبي عمر (682) والتقي السبكي.
ولو أثبته لابن دقيق العيد بدل الثاني كان أجدر لكنه آثر به بلديه, فقد قال الصفدي في (أعيان العصر) (1/252-253): (وعلى الجملة فقد كان الشيخ تقي الدين بن تيمية أحد الثلاثة الذين عاصرتهم ولم يكن في الزمان مثلهم, بل ولا قبلهم من مائة سنة, وهم الشيخ تقي الدين بن تيمية والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي, وقلت في ذلك:
ثلاثة ليس لهم رابع.....فلا تكن من ذاك في شكِّ
وكلهم منتسب للتقى.....يقصر عنهم وصف من يحكي
فإن تشأ قلتَ ابن تيمية.....وابن دقيق العيد والسبكي.
ويطلقه السيوطي والسخاوي على الحافظ ابن حجر العسقلاني، ويطلقه الأخير على شيخه الحافظ الإمام المجتهد سراج الدين عمر بن رسلان البُلقيني (805)، بل ذكر السخاوي أن هذا اللقب في عصر البلقيني كان مقصوراً عليه.
ويستعمله المصنفون في أصول الاعتقاد والسلوك على طريقة أهل الحديث لأبي إسماعيل الهروي (481)، وهو اصطلاح ابن القيم في كتاب (مدارج السالكين), وذكر السخاوي جماعة من أعيان فقهاء المذاهب الأربعة كان يطلق عليهم لقب شيخ الإسلام.
ومن أغاليط المحققين والمصنفين أن كثيراً منهم يشتبه عليه (ابن علية والأصم) فيقع لهم الغلط في ترجمتهما, وقد رأيتُ هذا الوهم فيهما قد وقع لجماعة منهم الأستاذ شعبان محمد إسماعيل في تحقيقه لبعض كتب الأصول, منها (كتاب الشوكاني) و (منهاج البيضاوي) وشرحه للأسنوي, فإنه ترجم لابن علية بالأب وهو الحافظ الكبير إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي البصري, وإنما هو ابنه إبراهيم وهو من المعتزلة, ويقع ذكره كثيراً في كتب الأصول والفقه والنظر, وأما أبوه فلا يُذكر إلا في تصانيف الحديث, وتارة يذكر في مباحث السنة من كتب الأصول, وقد وهم فيه أيضاً الدكتور فهد السدحان في تحقيق (أصول ابن مفلح) والدكتور طه العلواني في (محصول الإمام) ووقع لغيرهما أيضاً من محققي كتب الأصول خبط فيه وخلط بينه وبين أبيه, كاللذين حققا (مختصر المرداوي) والدكتور بسام الجزائري في (التحقيق والبيان) لأبي الحسن الأبياري وغيرهم.
وقد ذكر الحافظ في (الفتح) أن بعض المتقدمين غلط فيهما, ورأيتُ ابنَ النجار الفتوحي في (شرح الكوكب) في مسألة الاعتبار بالشبه في القياس هل هو حقيقي أم حكمي؟ جزم باسمه على الوهم هكذا: أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن علية, ولم ينبّه عليه محققا الكتاب لظنهما أنه ذكره على الصواب, فإن ابن النجار تقدم له ذِكْرُ ابنِ عليةَ الاب في فصل الجرح والتعديل من (كتابه) فترجمه المحققان على الصواب وميّزاه عن ابنه, وذَكَرَ الابنَ في باب القياس تبعاً للمرداوي, لكنه توهم أنه الاب, فساق كنيته واسمه كاملاً على ما توهمه, فتبعه على وهمه المحققان, ولم يترجمانه لأنه تقدّم لهما ترجمته.
ووقع هذا أيضاً للدكتور ياسين درادكة في تحقيق (المستظهري) وهو (حلية العلماء) للقفال الشاشي, وزاد فوهم في ترجمة الأصم حيث ظنّه أبا العباس محمد بن يعقوب النيسابوري الحافظ, وتبعه على ذلك الأساتذة المحققون لكتابي (المغني والشرح الكبير) طبعة دار الحديث بالقاهرة, وإنما هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان البصري المعتزلي شيخ ابن علية الابن, وهو قرينه في الذكر فإنهما ‍غالباً يقترنان بالذكر, ولا يذكران إلا في كتب الفقه والأصول والنظر, بخلاف ابن علية الأب وأبي العباس الأصم فإن ذكرهما إنما يقع في كتب الحديث والأثر.
ورأيتُ للدكتور يوسف القرضاوي وهماً قبيحاً في تصنيفه الموسوم (كيف نفهم السنة) فإنه تعقب من حكى الإجماع على أن دية المرأة نصف دية الرجل, فزعم أن هذا الإجماع غلط, بدعوى أن ابن علية والأصم خالفا في المسألة, وذهبا إلى أن ديتها كديته سواء, ولعدم أنسه ودرايته بهذا الشأن وصفهما بأنهما من علماء السلف! لأنه ظنَّهما أبا العباس الأصم وابنَ علية الاب, وليس الأمر على ما توهمه بيقين, كما شرحناه, فضلاً عن أن إبراهيم ابن علية وعبد الرحمن بن كيسان الأصم لايُعتبران في الوفاق والخلاف عند جماعة أهل العلم كما نبَّه عليه أبو عمر بن عبد البر وغيره, وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب (الردّ على الأصم وابن علية فيما انفردا به من المسائل الفقهية).
ومما يقع فيه الوهم والغلط ويشتبه على من لادراية له بكتب الطباق: (النهرواني).
وقد غلط فيه كثيرون ممن انتدب لتحقيق كتب الأصول كالدكتور شعبان, والأستاذ المحقق الكبير عبد العظيم الديب في (البرهان) والأستاذ الدكتور محمد حسن هيتو في (المنخول) للغزالي, والدكتور عبد الحميد أبو زنيد في (التحصيل) للسراج الأرموي, والدكتور طه العلواني في (المحصول) للإمام, والدكتور عبد الكريم النملة في (شرح المنهاج) للأصفهاني وغيرهم.
فإنهم يترجمونه بأبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواني المعروف بابن طراري مصنف كتاب (الجليس والأنيس) ويقال له الجريري نسبة إلى ابن جرير الطبري الإمام, فإنه كان على مذهبه في الأصول والفروع, وهو غلط محض, فإن الذي في كتب الأصول هو أبو سعيد الحسن بن عبيد الظاهري مذهباً, وأما ابن طراري فقد غلب عليه الأدب ونوادر الأخبار ولا يكاد يعرف بالفقه والأصول ولا ذكر له في كتبهم, ولايوجد عنه نقل فيهما أصلاً, وإنما وقع هذا الخلط بسبب التصحيف في الاسم, فإن الصواب في نسبة أبي سعيد الحسن بن عبيد: (النهرباني) وليس (النهرواني) وقد شرحنا حاله على الوجه في ترجمته من كتابنا (طبقات الظاهرية) وبالله الثقة.
ومن الأوهام التي تشتبه في الأعلام: (ابن الأنباري) بالنون, و(ابن الأبياري) بالباء, وقد رأينا بعض الأساتذة وهمَ فيهما ولم يميّز, منهم الدكتور أحمد يوسف سليمان رئيس قسم الشريعة بدار العلوم, فإنه نقل بالواسطة عن (شرح برهان إمام الحرمين) فتصحّف عليه في الأصل (ابنُ الأبياري) إلى (ابن الأنباري) فترجمه بأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار المعروف بابن الأنباري الإمام الحافظ اللغوي المتوفى سنة 328, وهو غلط قبيح لأنه توفي قبل أن يولد مُصنّف الأصل أعني (البرهان) فكيف يشرحه؟! وأيضاً فالرجل لغوي نحوي لاشأن له بالفقه وأصوله ولاذكر له في كتب هذين الفنين.
ومن تنبّه للفارق بينه وبين مُصنّف الأصل من الكُتّاب عدل عن ترجمته به إلى ترجمته بالكمال أبي البركات بن الأنباري النحوي المتوفى سنة 577 صاحب (الإنصاف) في الخلاف بين نحاة البصرة والكوفة, وهو أيضاً غلط, لأن هذا أيضاً نحوي صرف ليس له شغل بأصول الفقه ولا له ذكر عند أهل الفن.
وإنما هو أبو الحسن علي بن إسماعيل ابن الأبياري المالكي المتوفى سنة 616, وشرحه هو المسمى بـ(التحقيق والبيان) وقد نبّه ابن فرحون في (الديباج) (1/213) بما حكاه عن الحافظ أبي المظفر وحيد الدين أنه من أبيار من بلاد مصر على شاطئ النيل, بينها وبين الإسكندرية أقل من يومين, قال: وبعضهم يصحفها بأنبار بنون بعد الهمزة.
وبعض المحققين لايتنبّه لهذا فيقع له الوهم مع ظهوره! أعني الفارق الزمني بين مؤلف الأصل والشارح, كالذي تقدم, ونظيره أن اللجنة الأزهرية التي حققتْ (البحر الالمحيط) في طبعته بدار الكُتبي بمصر, ترجمت لشارح (برهان إمام الحرمين) وهو ابن العلاف, بأبي الهذيل العلاف المعتزلي المتكلم المشهور, مع أنه توفي قبل أن يولد إمام الحرمين بدهر!.
ومن أغاليط الكُتّاب أن يشتبه عليهم قول بعض المتقدمين من المُصنّفين: (قال أبو فلان) فيظن من لادُربة له باصطلاحهم, أنه ينقل عن غيره, وإنما أراد نفسه, كما يقول البخاري في (كتابه) (قال أبو عبد الله) يريد نفسه, وهذه كنيته, وكأبي بكر بن خزيمة في (صحيحه) وأبي محمد بن عطية في (تفسيره) وأبي بكر البيهقي وغيرهم.
ويقع هذا الغلط لكثير من طلبة الدكتوراه, ووقع لبعض المحققين والكُتّاب منهم الدكتور رفعت العوضي في كتابه الذي صنفه في الاقتصاد الإسلامي, فإنه ينقل عن أبي محمد بن حزم أنه نقل عمّن سماه هو بالفقيه أبي محمد, لأنه رأى ابن حزم يقول: قال أبو محمد, فيظنُّه غيرَه, وإنما عنى ابنُ حزم نفسَه, ونقلَ قولَه واختياره, وأغرب منه أن ابن حزم تارة يقول عن نفسه: قال علي, فظنَّ بعض الأساتذة أنه يحكي قولاً عن أمير ‍المؤمنين علي عليه السلام.!
ونظيره أن بعض المصنفين من أهل العلم يطلق في تصانيفه على نفسه بالإمام أو الشيخ, وربما يكون هذا الإطلاق من الناسخ أو بعض أصحاب المصنف, فيظنُّ بعض الدارسين أنه يحكي قولاً عن إمام معين, فينقله على ما فهمه, وهذا يقع في ال‍غالب للمتقدمين من المشارقة, كالقفال الشاشي في (المستظهري) والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي في تصانيفه, فإنه تارة يقول عن نفسه: قال الإمام أحمد, فظنَّ بعض المؤلفين والكُتّاب أنه يحكي قولاً عن الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب, فينقله على ما ظنَّ ويَهِمُ فيه, وليس كذلك وإنما عنى رأْيَه وحكى قول نفسه.
ومن ذلك أنه اشتبه على بعض المحققين للمخطوطات في الفقه والأصول (القفّال) فيغلطون فيه غلطاً بيّناً, تارة يترجمون القفّالَ الأصوليَّ بالفقيه, وتارة على العكس, وقد وقع هذا الوهم لجماعة منهم المحققان لمختصر المرداوي في الأصول وهو (تحرير المنقول) فإنهما ترجماه بالقفال الصغير المروزي الذي يُذكر في كتب الفقه وهو عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 417, وهو صاحب طريقة الخراسانيين في مذهب الشافعي, وليس كذلك بيقين, وإنما هو أبو بكر القفال الكبير محمد بن علي بن إسماعيل المتوفى 335, وله (شرح رسالة الشافعي) وكتاب في الأصول ذكرهما الزركشي في (مقدمة البحر) في تعداد موارد كتابه الأصولية ومصادره.
وذكر ابن السبكي في ترجمة القفّال الصغير من (الطبقات) أنه أكثر ذكراً في كتب الفقه, وأما الكبير فيذكر فيما عدا كتب الفقه من الأصول والتفسير وغيرهما.
ونظيره (ابن عرفة) فإنه إذا أُطلق في كتب التفسير واللغة والأدب فهو نفطويه إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي المتوفى سنة (223) وإذا أطلق في كتب الكلام والفقه والأصول فهو التونسي محمد بن محمد الورغمّي المتوفى سنة (802) وقد اشتبه هذا على الأدنه وي في (طبقات المفسرين) فوهم فيه كما شرحناه مبسوطاً فيما جمعناه من (تفسير نفطويه) و (عيون فوائده وأخباره).
ومما يشتبه (نافع) فإن بعض الأساتذة خلط بين نافع المقرئ ونافع الفقيه الراوي للحديث وهو مولى ابن عمر, منهم الدكتور محمد نبيل غنايم في كتابه عن مدارس مصر الفقهية, فإنه ذكر أن أشهب قرأ على نافع, ثم ترجمه بنافع مولى ابن عمر, وهو غلط ظاهر, فإن أشهب لم يدركه أصلاً, وإنما هو نافع المدني أحد السبعة.
ومنه نَقْلُ القاضي أبي بكر بن العربي في مواضع من تواليفه عن الطوسي الأكبر, فيغلط بعض الناقلين عنه من الباحثين فيظنه أبا حامد الغزالي ويترجمه به, وليس كذلك وإنما هو إسماعيل الطوسي, وأما الغزالي فهو أدنى منه في الطبقة, ولذا يميزهما القاضي بتقييد إسماعيل الطوسي بالأكبر.
ونظيره نَقْلُ سيبويه في (كتابه) عن الثقة, فيظنه من لايحقق هذا الشأن, الخليلَ بن أحمد الفراهيدي, وإنما هو أبو زيد الأنصاري.
ومنه أن صاحب (المغني) أكثر النقل عن أبي الحسن الآمدي, وقد غلط فيه بعض طلبة الفقه في الدكتوراه, فظنه الآمديَّ المتكلم الأصولي, وغرّه أنه كان قبل أن يتحول إلى مذهب الشافعي حنبلياً, وفي الحنابلة آمديان كلاهما يكنى بأبي الحسن, وهما: محمد بن أحمد الغازي, والثاني: علي ابن محمد بن عبد الرحمن البغدادي صاحب القاضي أبي يعلى والمقدّم على جميع أصحابه في النظر, وله في الفقه (عمدة الحاضر) كبير مفيد, وهو شيخ الأول, ولعله المقصود في نقل الموفق, وكلاهما مترجم في (ذيل الطبقات).
ومنه غلط بعض الطلبة والكُتّاب في ابن الصبّاغ, فيترجمونه بابن أخيه وزوج ابنته أبي ‍منصور بن الصباغ, كما صنع الدكتور أيمن حمزة في (القواعد الأصولية عند ابن تيمية) وغيره, وإنما المراد إذا أُطلق عند الشافعية أبو نصر عمّه صاحب (الشامل), ولايذكرون ابنَ أخيه إلا مقروناً بكنيته.
ووقع لملا كاتب جلبي في (كشف الظنون) وهم تبعه عليه بعض الكُتّاب, فإنه ذكر في الكلام على (رسالة الشافعي) من انتدب لشرحها من العلماء, فذكر القفال الشاشي وأبا بكر الجوزقي وأبا الوليد النيسابوري وأبا بكر الصيرفي, ولو انتهى إلى ذكر هؤلاء الأئمة واقتصر عليهم لأجاد وأفاد, وإن كان فاته شرح أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين, وقد ذكره الزركشي في (مقدمة البحر).
لكن الملا زاد فذكر شروحاً أخرى زعم أنها على (رسالة الشافعي) كشرح أبي زيد الجزولي والفاكهاني وغيرهما, وهو غلط ظاهر, وإنما شرح هؤلاء رسالة أبي محمد بن أبي زيد القيرواني في مذهب مالك, وقد تنبّه العلامة أحمد شاكر إلى هذا الوهم, فاقتصر في (مقدمة الرسالة) على ذكر شروح الخمسة الأعلام الذين مرّ ذكرهم.
ومما يشتبه (الحلواني) من الحنابلة, وهو بضم أوله وقيل بالفتح, وقد اضطرب الناس فيه, فترجمه محققا (شرح الكوكب) لابن النجار, بأبي الفتح محمد بن علي المتوفى سنة 505, وله تصنيف في أصول الفقه, وتبعهما عليه محققا (مختصر المرداوي الأصلي) والظاهر أنهم اعتمدوا على ما ذكره ابن بدران في (المدخل) أن الحلواني إذا أُطلق عند الحنابلة فهو هذا.
ونازعهم في ترجمته جماعة منهم الدكتور عبد الرحمن الجبرين في تحقيق (التحبير) للمرداوي, فترجمه بولده عبد الرحمن بن محمد بن علي المتوفى سنة 546, وله (الكفاية في أصول الفقه) وتأنى الدكتور عوض القرني فيه, فذكر أن الحلواني اثنان, وساق لهما ترجمة مختصرة ولم يرجح.
والتحقيق أن المراد في إطلاق الأصوليين هو الابن, لأن جماعة من أصوليي الحنابلة ذكروه باسمه وأزالوا بذلك الابهام عنه, منهم أبو الحسن بن اللحام في (قواعده) فإنه ذكره في مسألة الأمر إن قلنا إنه للندب, هل هو حقيقة فيه؟ فذكر قول من قال إنه مجاز فيه ثم قال: (واختاره عبد الرحمن الحلواني من أصحابنا) وتبعه على هذا أبو بكر الجرّاعي في (شرح أصول ابن اللحام).
وأما الأب فإنه المراد في إطلاق الفقهاء من الحنابلة, وهو الذي قصده ابن بدران, وقد رأيتُ المرداوي ذكر في آخر (مختصره الأصلي) أن الحلوانيَّ عند الإطلاق هو عبد الرحمن, لكنه سماه: عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين, وأُراه وهماً أو تصحيفاً من الناسخ, فليس في الحلوانيين الحنابلة من يُعرف بهذا الاسم, ولم يذكر العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في (المدخل) حلوانياً بهذا الاسم. والله أعلم
ومما يشتبه (البندنيجي) وقد رأيتُ الدكتور عوض القرني في تحقيق (التحبير) غلط فيه, فترجمه بأبي نصر محمد بن هبة الله صاحب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 495, وإنما هو القاضي أبو علي البندنيجي صاحب (الجامع) وهو من أرفع أصحاب الشيخ أبي حامد الاسفراييني وله عنه تعليق مشهور, لأنه المراد في إطلاق أصحاب الشافعي, وأما أبو نصر فإنهم يميّزونه بذكر كنيته أو كتابه الذي هو (المعتمد). والله أعلم
وللفاضل المذكور أوهام متكاثرة في الأجزاء التي تولى تحقيقها من (تحبير المرداوي) لعله يعيد النظر فيه, ولاسيما أن الكتاب قد نفد عند الكُتبيين, وبلغنا أن دار الرشد بالرياض تعتزم طبعه ثانية, فمن أوهامه أنه ترجم للسعدي في مباحث السنة من (التحبير) بأبي الفضل محمد بن أحمد الشافعي المتوفى سنة 441, وإنما هو أبو إسحاق الجوزجاني السعدي الحافظ المعروف.
وعندما نقل المرداوي من (الذخائر) لمجلي بالجيم, في فصل عطف الاستثناء على الاستثناء, تصحّف عليه إلى (المحلي) بالحاء المهملة, فكتب في الحاشية: (كأنه كتاب فقه للجلال المحلي)! وإنما هو القاضي أبو المعالي مجلي بن جميع الأرسوفي من شافعية مصر, مصنِّف (الذخائر) في فروع الشافعية, وفيه غرائب لا يعوّل عليها حذاق المذهب, وهو عسر الترتيب وعر المسلك, على جلالته وكثرة فروعه.
ورأيتُه في مسألة إجازة الخاص للعام خلط خلطاً بيّناً بين ابن رشد الجد وحفيده, ونقل المرداوي في الكلام على عموم (أي) عن صاحب (اللباب) من الحنفية, فترجمه هو بعلي بن زكريا المنبجي, وهو غلط ظاهر, والصواب أنه أبو الحسن البستي الجرجاني مصنِّف (اللباب) في أصول الحنفية كما نصّ عليه الزركشي في مقدمة (البحر المحيط) وإنما نقل المرداوي هذا عنه.
وفي الكلام على مسألة تقديم المستثنى على المستثنى منه, نقل المرداوي عن اللخمي, فترجمه المحقق بأبي القاسم بدر بن الهيثم الشافعي المتوفى سنة 318! وإنما هو أبو الحسن اللخمي المالكي المتوفى سنة 487, واسمه علي بن محمد, معروف عند إطلاق المالكية لقب اللخمي ولاينصرف إلا إليه, وهو مصنِّف (التبصرة) في مذهب مالك, وله فيها اختيارات غريبة خارجة عن المذهب, حتى قال بعضهم:
لقد مزّقتْ قلبي سهامُ عيونها.....كما مزّقَ اللخميُّ مذهبَ مالكِ
والرجل مجتهد لايحكمه إلا الدليل, ولذا أنصفه مَنْ قال فيه:
واظب على نظر اللخميِّ إنّ له.....فضلاً على غيره للناس قدْ بانا
يستحسنُ القولَ إنْ صحتْ أدلتُه.....ويوضِحُ الحقَ تبياناً وفرقانا
ولا يبالي إذا ما الحقُّ ساعدَه.....بمَنْ يخالفُه في الناس مَنْ كانا
وللفاضل المذكور في تحقيق (تحبير المرداوي) في أصول الفقه غير هذا من الأغلاط, فضلاً عن أن بعض الإحالات إلى المصادر والمراجع ليس بدقيق.
ومنه (ابن بشير) الذي يقع ذكره في كتب المالكية, وقد اشتبه على محقق (الأخنائية) الدكتور أحمد العنزي فترجمه بمحمد بن إبراهيم بن عبدوس بن بشير, والمحفوظ عند المالكية أنه إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير مصنف (التنبيه) فهو الذي ينصرف إليه (ابن بشير) عند الإطلاق.
ومما يشتبه أيضاً لقب (الحاكم) والمشهور به عند أهل العلم حافظان أشهرهما به: الحاكم أبو عبد الله بن البيِّع صاحب (المستدرك) والثاني: شيخه أبو أحمد الحاكم مُصنِّف (الأسامي والكُنى) ويقال له الكبير, تمييزاً له عن الأول.
وفي الحنفية: الحاكم الشهيد ويُعرف بصاحب (المختصر) وهو أبو الفضل محمد بن أحمد المروزي, وهو المراد في كتب الفقهاء والأصوليين ولاسيما الحنفية, فإنه اختصر كتب محمد التي يقال لها كتب ظاهر الرواية, ولخصها في مختصر لطيف, شرحه السرخسي في (المبسوط).
وقد نقل عنه التاج الأرموي في (الحاصل) في باب الإجماع, في الكلام على مسألة الإجماع الصادر عن اجتهاد هل هو حجة؟ فغلط في ترجمته محققُه الأستاذ الدكتور عبد السلام أبو ناجي, فترجمه بالحاكم الكبير, وليس هو بيقين, فإنّ هذا الأخير لايوجد عنه نقل في أصول الفقه, وإنما هو الحاكم الشهيد. والله أعلم
ورأيتُ بعض طلبة الدكتوراه في رسائلهم يخلطون في (ابن الأثير) فيجعلونهم واحداً! وهم ثلاثة إخوة, مجد الدين المحدث الفقيه صاحب (النهاية) و (جامع الأصول) و (شرح مسند الشافعي) وغيرها من التصانيف, وأخوه المؤرخ عز الدين صاحب (الكامل) وأخوهما الأديب ضياء الدين صاحب (المثل السائر). والله أعلم
آخره
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
كتبه
د. بلال فيصل البحر
القاهرة - 1435

منذ 10 أعوام و 8 شهور
بلال فيصل البحر

نقض كلام الطرهوني في بيانه عن حوادث داعش
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنوره أهل العمى، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فما أحسن أثرَهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد النبي الأمي الذى هدى به العباد، وفرق به بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والظلمات والنور، والغي والرشاد، فأوضح به السبيل وأنار به الدليل, وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم..وبعد:
فقد أحضر إليّ بطريق الفيسبوك بعض إخواننا المتابعين للتنظيم المقاتل بالعراق والشام الذي يقال له (داعش), بياناً ذكر من أحضره أن كاتبه يقال له الطرهوني بالطاء المهملة ولم أتبينه, لكن الذي أحضره إليَّ كأنه يعتقده عالماً, فإنه إنما جاء به إليّ بغرض إقناعي بما عليه الداعشيون مما يراه هو وإخوانه حقاً وصواباً, إذ كان قد اغتمَّ مما كتبته ونشرته في الفيسبوك من النقد لداعش وتسميتي إياهم بـ(الصعافقة).
ثم فحصت عن حال الطرهوني هذا فتبيَّن لي أنه الدكتور محمد بن رزق الطرهوني وهو معروف عندي من قبل لكنه لم يخطر على بالي أن يكون هو الكاتب, وعجبت من شأنه فإنه من الفضلاء المشتغلين بالعلم, ولما طالعت بيانه هذا وتأملته, رأيت كاتبَه كالذي يحزُّ في غير مفصل ويمضغ الماء, يتكلم وكأنه رأس لا ذَنَبَ له, ويحتجّ بغير حجة, ويستدلُّ بما يعود على أصله بالإبطال, وقد خبط فيه خبط عشواء, وضلَّ عن السواء, وجانبه العدل والإنصاف, وحالفه الظلم والإعتساف, وكان فيه كالذي يرى القذاة في عين أخيه ولا يُبصر الجذع في عينه كما قيل:
وإني أرى في عينك الجذع مُعرضاً...وتعجب إن أبصرت في عيني القذى
وأول ذلك أن هذا الأخ الداعشي الصديق الذي أحضر البيان الطرهوني, أنكر علينا ما توهمه من أننا نرمي الداعشيين برأي الخوارج واستعظم ذلك, فبعث إلينا بالبيان الطرهوني لأن مضمونه الردّ على من نَبَزَ الداعشيين بذلك, وهذا لأن القوم لا يرون أخطاءهم, ولا يعتبرون بالنقد الذي يتوجه إليهم من مخالفيهم, والآفة أنهم يستشعرون نظرية المظلومية التي هي سمة الروافض والخوارج, فيخلقون لأنفسهم مناخاً من الشعور بأنهم مظلومون من الناس الذين نابذوا منهجهم, ومجّوا أفكارهم, وهو ما يدفع بهم إلى عدم الاعتبار بغير ما هم عليه من الاعتقاد, وعدم الاعتداد بغير منظريهم وقادتهم, ويتيح لهم استشعار المظلومية هذا, التأقلمَ في الصعاب ومواجهتها, والانفرادَ عن جماعة المسلمين, وأن الله اختارهم دون غيرهم لنصرة دينه حين تخلى عنه غيرهم, ومن هنا يهجمون دون ورع أو عقل أو حتى أدب على ردّ أقوال كبار أهل العلم بَلْه تسفيههم والسخرية منهم, فلا تعجب ياطرهوني من سخرية الناس بأميركم الصعفوق كما وقع في بيانك, لأنكم أنتم من سنَّ هذه السنة واستعملها مع خصمه, فهذا من المقابلة بالمثل كما قال الشاعر:
فذوقوا كما ذُقنا غداة مُحَجَّرٍ...من الإثم في أكبادنا والتَحَوُّبِ
والواقع أننا لم نرمِ الداعشيين برأي الخوارج كما توهمه القواعد من الدواعش, وإنما تعرضنا له حيث نَبَزَنا هو بالإرجاء كا هي عادتهم إذا خذلتهم الحجة, أن يعمدوا إما إلى نَبْز خصومهم بالإرجاء أو إلى قتلهم, كما قتلوا الشيخ مهند الغريري والشيخ عبد الجليل الفهداوي والشيخ حمزة العيساوي وغيرهم بدعوى الإرجاء, وأحياناً بانتحال رأي الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله.! أو لأن مخالفهم تعرَّض لهم بالنقد.
فذكرتُ له أن من العجب أن ترمي غيرك بالإرجاء والخلود إلى الدعة والركون إلى الدنيا والتخلف عن الجهاد, في حين إنك أشبه بالخوارج القَعَدية الذين يحرّضون الناس على الخروج ويقعدون هم عنه, لأنك تُحرّض الناس على مبايعة داعش وزعيمها والقتال معهم, وتتخلف أنت عن الخروج للقتال معهم! وذكّرتُه بأن أصحابك الداعشيين لا يذكرون الخوارج بسوء في أدبياتهم ومقالاتهم, فهل بينكم وبينهم نسبة أو قرابة؟!
فتوهم أننا نرمي أصحابه برأي الخوارج, وأرسل إلي البيان الطرهوني الذي وقع فيه أنه أي الدكتور الطرهوني يربأ بمن سماهم الشيوخ الأفاضل عن أن يقعوا فيما وقع فيه الظالمون والمفسدون من رمي الداعشيين بالخوارج...فيقال له:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها...فإذا انتهت عنه فأنتَ حكيم
فأنتم ترمون مخالفيكم بالإرجاء ظلماً دون تحقق أو ورع, أفلا تربأ بنفسك وأصحابك عن هذا الفساد والظلم؟! فهذا المحدث الألباني الذي هو أبعد الناس عن الإرجاء لم يسلم من قالتكم قالة السوء, وهو كما قال الجمال الشافعي:
لم يُثْنِهمْ عنه لا دينٌ ولا ورعٌ...عموا وصموا ولجّوا في تأنبهِ
إمام صدق له في العلم مرتبة...شما بمعجمه فيها ومعربهِ
وقد أجاب الفقيه العلامة ابن عثيمين عن ذلك فقال: (من يرمي الألباني بالإرجاء, إما أنه لا يعرف الألباني أو أنه لا يعرف الإرجاء) وصدق رحمه الله.
ورميتم أهل العلم الكبار بالحجاز كابن باز وغيره بأنهم علماء حيض ونفاس, وهذا من عظيم جهلكم بمواقع العلوم وأقدار أهلها, فإن باب الحيض أشكل كتب الفقه وأعوصها كما قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في (المسالك).. قال: (ولم أجد في رحلتي إلى المشرق من يحققه غير رجلين: أبي نصر بن الصباغ وأبي إسحق ابن الآمدية).ولست أدري كيف يحسن الكلام والفتوى في دماء الناس من لايدري الكلام والفتوى في دم المرأة وبُضعها!.
والعجب أن أهل البدع من المعتزلة والخوارج كانوا يرمون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك, كما كان عبيد بن عمير وواصل بن عطاء يقولان: (ما كلام ابن عمر والحسن إلى كلامنا إلا كخرقة حيض ملقاة)!. ثم بعد هذا يقال: ظلم منكم لنا أن ترموننا برأي الخوارج!.

قال الكاتب الطرهوني: (الخوارج لهم أصول واعتقادات ولا يوصم الشخص بأنه خارجي لمجرد إعماله القتل وتكفيره للبعض وإنما لابد أن يعتقد اعتقادات الخوارج بل وينتمي لهم في ال‍غالب حيث لايعرف عن فرق الخوارج تبريهم من عقيدتهم وانتماءاتهم وإنما يفخرون بما هم عليه ويناظرون فيه, فهل أعلنت الدولة تكفير الحكمين وعلي ومعاوية, وهل أعلنت الدولة أن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في نار جهنم, وهل أعلنت الدولة نفي الحوض والصراط والميزان والشفاعة والرؤية والقول بخلق القرآن ونحو ذلك).

فيقال: هذا إجمال قبيح يقود إلى استحلال الدماء المعصومة بيقين بالظنون الكاذبة, وقد ثبت وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخوارج بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان, وقد وقع من الداعشيين هذا دون ريب, فإنهم استحلوا قتل الشيعة المسالمين الذين لم يقاتلونا ولا ظاهروا علينا, وقد قال تعالى في الكفار الأصليين (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ, إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فكيف بأهل البدع المسالمين الذين نصَّ أهل العلم على أنهم لا يُمنعون مساجد المسلمين, وإنما يُمنعون من إظهار بدعهم فيها, ولم يزل المسلمون على أن بيننا وبينهم التعايش السلمي ما سالمونا, ولهذا لم يقاتلهم الولاة والأئمة, وإنما قاتلوا من ظاهر علينا منهم, واستباح ما عصمه الله منا كالفاطميين العبيدين ونحوهم.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير في (تاريخه) أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سار إلى بعض غلاة الرافضة والإسماعيلية ونحوهم من النصيرية المسالمين للمسلمين, إبان كائنة التتار وقتالهم في واقعة شقحب, فأعلمهم بأنهم آمنون لا يُتعرض لهم ما داموا مسالمين لا يظاهرون العدو على المسلمين ولا يعاونونه.
وأيضاً فقد استحل الداعشيون قتل الإخوان المسلمين, فإن قيل: إنهم إنما استحلوا دماءَهم لإكفارهم إياهم بدعوى الولوج في السياسة التي تقتضي مولاة الكفار إذ ذاك, قيل: هذا غايته أن يكون دخولهم في ذلك اجتهاداً منهم, وبتقدير كونه خطأً لايقتضي إكفارهم فضلاً عن استحلال دمائهم, لا يقال: إننا ما قتلناهم إلا لأنهم عندنا كفار مرتدون, لأن هذا التكفير اجتهاد ظني لا ينتهض لمعارضة القطعي المتيقن من إسلامهم الثابت بيقين, وقد تقرر أن اليقين لا يزول بالشك.
وأيضاً: فإنهم يصلون ويشهدون المساجد والشعائر, وقد روى مالك عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ. فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ جَهَرَ: «أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ». فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى. وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُصَلِّي؟» قَالَ: بَلَى. وَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ». أي: عن قتلهم.
وأيضاً: فأي مصلحة في قتلهم بتقدير كفرهم وردّتهم؟ بل فيه من المفاسد العظيمة الضرر ما يشهد العقلاء بأنه حمق ورعونة وجهل فاضح, فقد اشتغل أهل السنة بسبب داعش بقتال بعضهم بعضاً عن قتال العدو الأصل في العراق والشام, وذهبت دماء معصومة في قتال فتنة, واستقوى العدو بذلك, وما ظهرت الصحوات العراقية الموالية للعدو إلا بسبب حماقات الداعشيين وجهالاتهم في إكفار المسلمين وقتالهم, حتى إنهم قاتلوا المقاومة التي تقاتل العدو المحتل وتدفع عن الإسلام وأهله غزوهم في العراق, وليس ببعيد قتالهم لجبهة النصرة وإكفارهم إياهم.
وبعد هذا فلا تعجب إن رمُيت داعش برأي الخوارج, فإن الأمر كما قيل: (قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ قال: اسأل من يدّقني)؟! ولو احتجّ داعشي بأنهم لم يقدموا على ذلك إلا بعد إكفار خصومهم, فلخصومهم أن يقولوا: ونحن لم نقدم على منابذتكم إلا بعد أن رأينا أنكم أقرب إلى الخوارج باستحلالكم الدماء المعصومة, فظهر أن الطرهوني لا يدري ما يخرج من رأسه.
وأيضاً: فما ذكره من اعتقاد الخوارج لا يسوّغ له درء مسمى الخوارج عن الداعشيين, ولا يساعد عليه, وهذا من عدم درايته بمسائل الأسماء والأحكام, فإن نفس مسمى الخوارج على مراتب وليس هو بمنزلة واحدة, تماماً كالإرجاء والقدر والتشيع وغيرها من البدع, ومن هنا غلط الداعشيون في رمي خصومهم بالإرجاء, فيقال: من اعتقد ما ذكره الطرهوني من مقالات الخوارج فهو في أعلى مراتبهم, ولا ريب أنه لا يساويه في مسمى الخوارج من اعتقد بعض هذه المقالات أو دونها ,كمن اعتقد جواز وطء الحائض أو عدم وقوع طلاقها وهو مذهب الخوارج ونحو ذلك من المسائل التي عرفوا بها, تماما كالتشيع فإن من اعتقد أفضلية علي على عثمان ليس هو في التشيع كمن استحلّ سبَّ الشيخين.
وهكذا سائر البدع فإنها على مراتب وطبقات, ومنها بدعة الخوارج, فإن لهم اعتقادات ومقالات هي كفر محض, ولهم أوصاف بها يعرفون كاستحلال الدماء المعصومة بالشبه الواهية, وإكفار مخالفيهم وازدرائهم, والمبالغة والغلو في التعبد والزهادة, وفرط الشجاعة, وإتقان الخطابة, والبغي على المسلمين, وهذه الأوصاف الستة الأخيرة وغيرها, ظاهرة في الداعشيين لا مدفع لها, ومن هنا أطلق من أطلق عليهم مسمى الخوارج, لا من جهة الاعتقاد كما توهمه الطرهوني, وبتقدير صحة هذا الإطلاق فغايته أنه يقتضي أنَّ فيهم من الأوصاف ما يجعلهم كالخوارج من وجه دون وجه, وأعمالهم من جنس أعمال الخوارج, لا أنهم خوارج في نفس الأمر, ففي هذا الإطلاق تجوّز ومسامحة.
ومن هنا كان للسلف الأول في إكفار الخوارج قولان هما روايتان عن أحمد, وإنما سبب ذلك أن نفس مسمى الخوارج متفاوت المراتب, وليس هو بمنزلة واحدة عندهم.
وعندما رمى بعض أصحاب المدخلي المتعصبين له, الشيخَ الدكتور سفر الحوالي برأي الخوارج ظلماً منهم كعادتهم مع خصومهم في إطلاق ألقاب البدعة عليهم دون علم أو عقل أو ورع, بل بمحض الجهل والرعونة, احتكم بعض أتباع الحوالي إلى العلامة ابن عثيمين, فدعى بالحوالي وسأله بمحضر الناس: هل تعتقد أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار, فقال الرجل: لا. ثم سأله من جنس هذا السؤال المتضمن ذكر اعتقادات الخوارج ومقالاتهم التي بها يصير معتقدُها منهم أصلاً لا وصفاً, ولم يسأله عن التحلي بأوصافهم فإن هذا لا يقتضي في الجملة أن يكون المتّصف بها منهم, وإن كان يستلزم مشابهتهم من جهة الوصف, ولذا أطلق الشيخ براءته من رأي الخوارج.

قال الطرهوني: (وهل اعتمدت -يريد داعش- كتب الخوارج كتفسير هود بن محكم ومسند جابر بن زيد وغيرها).

فيقال: هذا قصور في معرفة أحوال الرجال وكتب أهل العلم ومصنفاتهم, فإن جاير بن زيد لا يعلم أنه صنّف مسنداً, بل الذي صنّف للإباضية مسنداً هو الربيع بن حبيب وهو عمدتهم في النقل.
وأيضاً: فرميه جابر بن زيد برأي الخوارج غلط محض, ولا ريب أن الإباضية يدّعونه منهم, لكن دعواهم هذه لا تُسلَّم لهم إلا من جهة النسبة, فإن الرجل وإن كان بصرياً عداده في علماء البصرة وعبّادهم وزهّادهم, إلا أنه عُماني الأصل, أصله من الخَوْف وهي ناحية بعُمان, فمن هنا ادعاه الإباضية, ولا يصح عن ابن معين رميه بذلك, بل الصحيح الثابت عن جابر نفسه أنه تبرّأ من رأي الخوارج والإباضية نصاً, كما ذكره ابن سعد عنه في (الطبقات).
وأيضاً فإنه من ثقات أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما وكبارهم, حتى كان يقول ابن عباس لأهل البصرة: تسألوني وفيكم جابر بن زيد؟ وقد ثبت عن ابن سيرين وهو معاصره أنه نفى عنه الرأي الذي زُنَّ به, أي: انتحال قول الخوارج والإباضية.
وأيضاً فإن مذهب الإباضية قد نقَّحه علماؤه ورجاله, وأصّلوا قواعده, وفصّلوا معاقده, حتى تميّز عن رأي الخوارج, فإطلاق أنهم من الخوارج فيه نظر عند من عرف مذهبهم وخبر أقاويلهم.

قال الطرهوني الكاتب: (قد يكون ما ينشر عن الدولة من خصومها حقا أو بعضه حقا ولكن ماعلاقة ذلك بالخوارج).

وجوابه: أما علاقته بالخوارج فقد تقدم بيانه والكلام عليه بما يظهر معه وجه العلاقة, ويأتي مزيد بسط لذلك, وأما أنه حق فلا ريب فيه, والعجب من هذا الورع البارد الذي لا يدرى ما الحامل عليه إلا أن يكون هو التعصب, وليته إذ تورع عن قبول ما تواتر عنهم من قتل المجاهدين بالعراق والشام, سلك مثل هذا الورع أو بعضه مع خصوم داعش من أهل العلم والفضل والجهاد الذين ليس في داعش من يناظرهم في الفضل, وخاطب به الداعشيين قبل خصومهم أن يسلكوا سبيل الورع والتأني في إطلاق مسميات الكفر على مخالفيهم من المجاهدين والدعاة, فضلاً عن استحلال دمائهم المعصومة.
وليعلم أن للناس في داعش ونظرائهم في الفكر والمنهج ثلاثة أقوال: قولان منهما على طرفي نقيض, فمن الناس من يطلق أنهم من الخوارج كما يقوله من يقوله من غلاة السلفيين وبعض أتباع المذاهب الأربعة ومن المتصوفة والمتكلمين وغيرهم.
ومن يرى موالاتهم ووجوب اتّباعهم ويعتقد فيهم وفي أميرهم البيعة والنصرة, وهو قول ‍غالب من يعرف بالسلفية الجهادية.
ومذهب وسط وهو قول من يرى أنهم ليسوا من الخوارج مذهباً واعتقاداً, بل هم مجاهدون قاموا لنصرة الدين وردّ العدوان عن المستضعفين, لكنهم لجهلهم بالواقع وقصور نظرهم في عواقب الأمور, وعدم تحققهم من العلوم والمعارف, إذ كانوا من الأحداث والشباب الذين غلبتهم العواطف وغمرهم الحماس, اندفعوا في إكفار المسلمين وقتال من خالفهم من إخوانهم المجاهدين كما مرّ, فنشأ عنهم فساد وضرر عظيم, وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً, فمن هنا كان تصرفهم وصنيعهم أشبه بأعمال الخوارج وإن لم يكونوا منهم أصلاً ومذهباً, لكنهم شابهوهم من جهة الاتصاف ببعض أوصافهم من غير قصد أو عمد.
فعطّلوا بجهلهم وعنادهم مصلحة قتال العدو ودفع ضرره, وأوقعوا المسلمين في الفتنة بالقتال فيما بينهم, وشغلوهم عن الأصل وهو قتال العدو, وهذا من جنس صنيع الخوارج الذين شغلوا أمير ‍المؤمنين عليّ عليه السلام عن الجهاد والفتوح, بقتالهم ودرء شرهم, ولهذا لم يعرف في عهد عليّ عليه السلام كثرة الغزو, وإن كان قد أغزى زياد ابن أبيه خراسانَ وما والاها.
وهذا القول هو الإنصاف في داعش ومن تابعهم وهو الذي ينبغي أن يكون عليه قول المحققين من أهل العلم, وهو الذي ندين الله به, ونعتقد أن داعش بغاة باستحلالهم دماء المسلمين من المخالفين لهم في الفكر والمنهج والاعتقاد من أهل السنة, فينبغي قتالهم إذا بغوا على غيرهم من المجاهدين أو عامة المسلمين, كما قال أمير ‍المؤمنين عليّ عليه السلام في الخوارج: (إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا).
وقد سُئل الإمام مالك رحمه الله عن الذين خرجوا على أبي جعفر ال‍منصور, هم خوارج يا أبا عبد الله؟ فأنكر مقالتهم, وقال كالمتعجب: خوارج! لو خرجوا على مثل عمر بن عبد ال‍عزيز, يريد أن الخارجين على ولاة الجور والظلم وإن غلطوا في اجتهادهم فلا يطلق عليهم مسمى الخوارج, لأنه إنما يطلق على من خرج على إمام عدل, فالإنصاف في الحكم يقتضي أن لا يُنظر إلى الخارج وفعله بمجرده, بل لابد من النظر في المخروج عليهم, ومن هنا غلط وأسرف من أطلق مسمى الخوارج على بعض من خرج على حكام العصر من أهل الجور والظلم والفسق والكفر, لكن يستحقون وصف البغي ومسمى البغاة إذا جاوزوا الحد, واستحلوا ما عصمه الله وحرّمه من دماء الناس وأموالهم من المسلمين وغيرهم.
ولهذا أشكل على بعض أهل العلم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى الشرعي للتتار بعد أن أجمعوا كلمتهم على قتالهم من جهة أنهم مسلمون, فبيَّن لهم أبو العباس ابن تيمية أنهم من جنس البغاة والمحاربين, فيقاتلون لبغيهم ودفع ضررهم, وزال الإشكال ولله الحمد, ذكره ابن كثير وغيره.

قال الطرهوني: (الله يا أحبة .. قد يكون ما ينشر عن الدولة من خصومها حقا أو بعضه حقا ولكن ماعلاقة ذلك بالخوارج؟ يقتلون مخالفيهم ويكفرون كثيرا ممن خالفهم هذا ينظر فيه بتجرد فقد يكون بتأول واجتهاد خاطئ وقد حصل بعض ذلك لخيار الأمة وقتل الصحابة بعضهم بعضا متأولين في ذلك, وكفر علماء الدعوة النجدية أمما ممن خالفهم).

فيقال له: ما أهون شأن الدماء عندكم؟! وقد قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
وعند البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا». وخرّج أبو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ». أي هلك بوقوعه في الدماء المحرمة, وقوله معنقاً: أَيْ مُسْرِعاً فِي طَاعَتِهِ مُنْبَسِطاً فِي عَمله.
وله عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا». قَالَ خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ، سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى الْغَسَّانِيَّ، عَنْ قَوْلِهِ: «اعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ» قَالَ: «الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي الْفِتْنَةِ, فَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ، فَيَرَى أَنَّهُ عَلَى هُدًى، لَا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ» قَالَ أَبُو دَاوُدَ: فَاعْتَبَطَ: يَصُبُّ دَمَهُ صَبًّا.
ومن عجيب شأن الدكتور الطرهوني في كلامه هذا استحلاله الدماء والاستهانة بها وتبريرها وأنها اجتهاد جزافاً, وليس في الداعشيين من يُقرُّ له بالعلم ويُشهد له به فضلاً عن الاجتهاد فيه! وأين فيهم أهل البصيرة والعقل والتجارب؟ بلى فيهم الحمق والصعافقة والرعونة والجهالة المفرطة, بحيث يستحلون الدماء ويبررونها اعتماداً على ما حصل بين الصحابة من الاقتتال, وهو غلط قبيح ويلزم منه تصويب المجتهدين وهو لا يقوله, فضلا عن كونه لازماً فاسداً فالملزوم مثله.
ولا ريب أن علياً عليه السلام هو المصيب ومقاتله باغ مخطئ مأجور, كما قال الإمام أحمد أو غيره من السلف: (ما قاتل أحد علياً إلا وعليّ أولى بالحق منه). وأنكر ابن معين على بعض أصحابه تسمية معاوية وأصحابه بالبغاة, فبلغ ذلك الإمامَ أحمد فأنكره عليه وقال: قد سمّاهم رسول الله بذلك!. يريد قوله صلى الله عليه وآله وسلم (تقتل عماراً الفئةُ الباغية).
ولا يحل لأحد أن يقتل ويستحل الدماء ثم يبرر ذلك بما وقع من السلف من الاقتتال, وقد ذكر القاضي عياض في (الشفا) عن مالك أنه قال (لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ إِذَا عُوتِبُوا أَنْ يقولوا: أَخْطَأَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا).
لكن الأمر كما قال المتنبي:
ومن البلية عَذلُ من لا يرعوي...عن جهله وخطابُ من لا يفهمُ
وأما قوله (وكفر علماء الدعوة النجدية أمما ممن خالفهم) فتلك شكاة ظاهر عنك عارها, وهي ثالثة الأثافي! ولا أدري من أنبأه أن علماء نجد حجة على من سواهم من أهل العلم, وقد تبرأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآله من إكفار المسلمين كما في (الرسائل النجدية) وهذا ابن الأمير الصنعاني الذي تابعه على دعوته ونصره, ونظم الأبيات النجدية المشهورة التي مطلعها:

سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نجدِ...وإن كان تسليمي على البُعد لا يـُجدي
قفي واسألي عن عالم حلَّ سوحها...به يهتدي من ضكَّ عن منهج الرشدِ
محمدٍ الهادي لسنة أحمد...فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي

قد صح عنه أنه نقض هذه النجديات عندما جاءه الشيخ مربد التميمي الحنبلي وأحضر إليه بعض تواليفه كما ذكره ابن حميد في (السحب الوابلة), فرأى فيها غلواً وإسرافاً في إكفار المخالفين له, فقال:

رجعتُ عن القول الذي قلتُ في النجدي...فقد صحَّ لي عنه خلاف الذي عندي
ظننتُ به خيراً فقلتُ عسى عسى...نجدْ صالحاً يهدي العبادَ ويستهدي
لقد خاب فيه الظن لا خاب نصحنا...وما كل ظنٍ للحقائق لي يهدي
وقد جاءنا من أرضه الشيخ مربد...فحقق من أقواله كل ما يبدي
وقد جاء من تأليفه برسائل...يكفّر أهل الأرض فيها على عمدِ
ونقضها عليه أيضاً جماعة من العلماء منهم عالم طرابلس الغرب ابن غلبون وغيره.
وقد زعم الشيخ ابن سحمان أنها مكذوبة على ابن الأمير وصنف في ذلك جزءاً لم يأتِ فيه بطائل, وعلماء اليمن يشهدون بصحة نسبتها لابن الأمير ومنهم شيخنا القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني وغيره, وقد اطلعت عليها مخطوطة بصنعاء وعليها شرح لناظمها نفسه, ورأيت أهل بيت الصنعاني وأحفاده يقطعون بنسبتها إلى جدهم, وذوق الصنعاني ظاهر عليها يدركه من ذاق طعم شعره وأدبه.
وعندي أن ابن عبد الوهاب رحمه الله برآء من الغلو في التكفير, وإنما ينسبه إلى ذلك خصومه ومنهم الشيخ مربد, فلا يقبل قوله لأجل العداوة للمذهب كما تقرر, وأما الغلو فإنه نشأ بعدُ في بعض أصحابه وأتباعه الذين صار يقال لهم الإخوان, غلطوا في فهم بعض مقالاته في مسائل الأسماء والأحكام. والله أعلم
ومن أعظم مثارات الغلط عند القوم أعني داعش, التلقين, فإنهم يقبلون كل كلام ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وآله مطلقاً, ويجعلونه حجة لا مدفع لها, دون فحص أو نظر, حتى أزرى هذا بمذهب أحمد فحجّروا منه واسعاً, وحصروه في أقوال هؤلاء, وقد وقع هذا من حنابلة المئة الثامنة مما اضطر ابن رجب الحنبلي إلى تصنيف جزء في أن مقالات ابن تيمية التي تفرد بها لا تلتحق بمذهب أحمد عند حذاق المذهب من المتأخرين, وصنف بعده بمدة ابن صوفان النابلسي الحنبلي جزء (درء المثالب عن مذهب أحمد) بسط فيها هذا الأصل الذي قرره ابن رجب وحققه, وعليه مشى المتأخرون من الحنابلة ولا سيما بالشام إلا حنابلة نجد والحجاز, وإنما حُصر المذهب في أقوال النجديين من أجل دولة آل سعود التي ناصرته واعتمدته, وقد قيل: لن تدرك خطأ شيخك حتى تجالس غيره.
ثم تكلم الطرهوني على ما زعمه من سمت ووقار أمير داعش في خطبته التي كانت بالموصل كان الله لها ولأهلها, وزعم أن لأنصاره أن يقولوا: هذا خالي فليُرني امرؤ خاله! كذا قال. فيقال له كما قال كُثيِّر عزة:
ويعجبُكَ الطَريرُ فتَبْتَليهِ....فيُخلفُ ظنَّكَ الرجلُ الطريرُ
وليت شعري مالذي رأيته فيه سوى الكلام المـُنمَّق حتى تحكم عليه بذلك؟! ولكنها العجلة شيمتكم التي طالما طوّحت بكم في مهاوي الردى.
على أن غير الطرهوني من العقلاء وذوي الفراسة والكياسة يخالفونه فيقولون إن الحمق والجهالة ظاهرة عليه لا تخفى, وفي مثله يقال:
لا بأسَ بالقوم من طول ومن قِصَرٍ...جسمُ البغال وأحلامُ العصافيرِ

قال الطرهوني: (كما يؤلمني الهجوم على إعلان الخلافة وأنه افتيات على الأمة وتفرد بمسألة مصيرية دونها وعدم اعتبار لقول أهل الحل والعقد ونحو ذلك .. يقع في نفسي مثال لذلك : رجل ضعيف الدين والشخصية كل بناته زوان وهو ساكت ماعدا واحدة رفضت الزنا فبحثت عن طريق تتزوج به وفق الشرع بولاية دون هذا الولي الديوث الضعيف وفق بعض أهل العلم فقامت الدنيا وقعدت كيف تجاوزت هذه البنت العاقة الولي الأول تجاوزت الدولة في إعلانها الخلافة بقية الأمة فكان ماذا؟).
وهنا يتمثل بقول الشاعر:
نزلوا بمكة في قبائل نوفل...ونزلت بالبيداء أبعدَ منزلِ
وهذا يدلك على ما تقدم ذكره من أن هؤلاء القوم لا يرون الدين إلا ما عندهم, ويزدرون الأمة كلها بعلمائها وفضلائها, حتى إنه ليشبههم بالديوث الضعيف! وإذا كانوا قد قاتلوا أقرب الناس إليهم منهجاً وفكراً وهم جبهة النصرة, فلعمري لو تمكن هؤلاء الصعافقة من رقاب الناس ما سلم منهم أحد, فمن يحكمون ومن رعيتهم إذا كان الناس عندهم بهذه المنزلة؟! ولهذا لا ينصر الله بهم دينه, ولا يُـمكّن لهم على ما عندهم من البأس والشدة, لأن دعوتهم قائمة على غير أصل, ومشروعهم إنما هو الخراب والقتل.
على أنه في قياسه هذا أخطأت إسته الحفرة, فإنه قياس فاسد جداً, قد تعثّر فيه ضالاً عن وجه الصواب, وما أحسبه أخذه إلا من المفلوكين, لأن الولي البديل عن الديوث, لا يُسلّم أنه أهلٌ للعقد, فإنه خنثى! ولايجوز عند العلماء أن يتولى العقدَ خنثى.
وأيضاً فأين الشهود الذين يبطل العقد بدونهم؟ وهم هنا أهل العلم, ونقطع أنه ليس في داعش عالم ولا معهم أحد من أهل العلم الكبار الذين معهم البركة, كما أخرج ابن حبان والحاكم وصححاه مرفوعاً (البركة مع أكابركم) وفي رواية الرافعي في (تاريخ قزوين): (البركة مع أكابركم أهلَ العلم). وقال الشعبي وغيره من السلف: (لايزال الناس بخير ما جاءهم العلم من أكابرهم, فإذا جاءهم من أصاغرهم هلكوا).
وأيضاً فإن الانفراد عن الأمة مظنة الزلل, وهو مطية الخوارج وسمة ظاهرة من سماتهم, ولهذا فإن الصعفوق الذي أعلن الحماقة الكبرى التي سماها بالخلافة, قد ركب متن عمياء, وخبط خبط عشواء.
والإشكال أن القوم غلطوا في فهم مقاصد الشارع من الخلافة, وظنوا أنها غاية برأسها, وليس كما توهموا, فإن الخلافة وسيلة لا غاية, والغرض منها أن يأمن الناس فيها على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم, وقد تقرر في قواعد الفقه أن الوسيلة إذا لم تحقق المقاصد التي شرعت لأجلها فلا يسوغ اتخاذها ولا تشرع, فإذا كانت الوسيلة لا تفضي إلى الغرض والمقصد الذي لأجله شرعت, بطلت الغاية والفائدة منها, فصار اتخاذها من جنس اللعب والعبث, كما هو واقع وحال خلافة الداعشيين المزعومة.
فكيف والعقل والواقع شاهدان بأن هذه الحماقة التي قيل عنها خلافة لم يزدد بها الناسُ إلا خوفاً ورعباً, فأي طائل منها وإن تسمى صعفوقها بأمير الثقلين!؟.فلن تزيد عن قول القائل:
مما يزهدني في أرض أندلسٍ...ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ
ألقاب مملكةٍ في غير موضعها...كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ
ومن تأمل في الإمارات الإسلامية التي قامت, وأمعن في دراسة تاريخها تبيَّن له أنها إنما نجحت وأفلحت, بالتأني وترك الاستعجال, وبعد وقائع وغمار استأهلوا بها لقيادة أممهم, وإحكام إمارتهم, وكان معهم العلماء الكبار وذوو الرأي والسن والبصر بالحرب وتجارب الأمور وسياسة الناس, وخبراء في فنون الإدارة والقيادة والاقتصاد, فهذا الإمام عبد الله بن ياسين الجزولي رحمه الله الذي أقام إمارة شرعية في جزيرة تيدا في جنوب نواكشوط, لم يعلن إمارته إلا بعد وقائع أحكم بها السيطرة على حدود إمارته, صار له بها السيادة المطلقة, وأقام سوق الجهاد بعد أن مكث سنين وهو يُعدُّ أتباعه معنوياً لذلك, فلما استوثق منهم خرج بهم للقتال, وكان يجلد من تخلف منهم عن الجماعة عشرة أسواط.
ونظيره الشيخ عثمان فودي رحمه الله الذي أقام إمارة إسلامية في نيجيريا, ومن قبلهم المرابطون والموحدون, بل حتى الفاطميون, فإن هذه سنة كونية يستوي فيها البرُّ والفاجر, ولا نجاح ولا فلاح لمن أغفلها واغترّ بالمسميات والألقاب حتى يقال إنه خليفة! فليس الشأن مجرد بيعة وأن تتسمى بإمرة ‍المؤمنين حتى كأن الأمر أشبه بالدراما التاريخية وصار السلفيون بكم ضحكة للعامة.
ومن عجب أن الدين والشرع عندهم ليس له معنى سوى الإرهاب والزجر والوعيد وما يتضمن معنى الخوف والرعب, وإن كان هذا مقصوداً للشارع في بعض أحكامه, لكن ليس هو الأصل, فتراهم لا يفقهون من إقامة الشرع إلا الحدود, فحيثما وقع لهم نوع تمكن في موضع ما, شرعوا في الجلد والحد! مع أن الحدود لا تقام في الحرب إلا بضوابط لم تتفق لهم, وهذا من الجهل بمقاصد الشارع في أحكامه, ولذا لا يأتي للإسلام وأهله منهم إلا ما يشين ولا يزين, لأن الرفق ليس في أدبياتهم مطلقاً.
وقد زعم الطرهوني أنها دولة حقيقية فيقال له كما قال أبو العلاء:
هل صحَّ قولٌ من الحاكي فنقبله...أم كل ذاك أباطيلٌ وأسمارُ
أما العقولُ فآلت أنه كذبٌ...والعقلُ غرسٌ له بالصدق أثمارُ
ثم زعم أنهم أثخنوا في الرافضة, ولا نعلم أنهم قاتلوا المليشيات الرافضية التي أفسدت بالعراق, بل غايتهم قتل المسالمين من الشيعة من العامة الذين لاذنب لهم, بلى قاتلوا وقتلوا إخوانهم من أهل السنة من جبهة النصرة والمقاومة العراقية وأثخنوا فيهم, أفنسيت هذا أم تناسيته؟!...(وعينُ الرضا عن كلِّ عيب كليلة)
والحاصل من داعش أحد أمرين لا ثالث لهما, إما أن يقاتلوا أهل السنة من المجاهدين والثوار, وإما أن تفضي تصرفاتهم الرعناء الحمقاء إلى استباحة بيضة المسلمين وحرماتهم من قبل دول الكفر, ولو كان هذا الصعفوق الذي تلقب بالبغدادي صادقاً لكفّ عن سخافاته وسفاهاته ووضع يده بيد الثوار والمجاهدين الذين معهم أهل العلم والفضل والتجربة والحل والعقد, واجتمعوا لقتال عدوهم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين, وإن ركبه الحمق وأصرَّ على جهالاته, فسيندم لكن حيث لاينفع ندم:
ندمَ البغاةُ ولاتَ ساعة مندمِ...والبغيُّ مرتع مبتغيه وخيمُ
وقد شاهدنا كثيراً من الجماعات الجهادية بعد أن أوغلوا في القتل والتكفير, وسُفكتْ منهم ومن غيرهم من الأبرياء دماء ودماء, ندموا وتراجعوا ولسان حالهم يقول:
ألا يا ليتني عاصيتُ طَلْقاً....وجباراً ومَنْ ليْ بأميرِ
وقد اشتدّ الكرب وعظم الخطب بأهل الإسلام, حتى إنهم كما قيل:
أنى نظرتَ إلى الإسلام في بلدٍ...تراه كالطير مقصوصاً جناحاه
والواجب على علماء الأمة أن لا يسكتوا عن بيان ما أخذ الله عليهم من الميثاق أن يبيّنوا للناس الحق ولا يكتمونه, ولا سيما في هذه المسائل الدقاق التي لا يتكلم فيها إلا خواص أهل العلم وكبارهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية, وهي مسائل الإمامة والجهاد التي يتعلق بها مصير الأمة, وإلا اتخذ الناس رؤوس الجهل من الصعافقة فضلوا وأضلوا, وليس وراء ذلك إلا إراقة الدماء الغالية من الطرفين, وهو ما يسرُّ العدو ويُحزن الصديق:
لئن لم يُطْفها عقلاء قومٍ...يكون وقودُها جثثٌ وهامُ
والحمد لله أولاً وآخراً باطناً وظاهراً وصلى الله على نبيينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً
كتبه
د. بلال فيصل البحر..بالقاهرة
9/رمضان/1435

منذ 10 أعوام و 10 شهور
محمد عبده

موقف حزب النُّور من الانقلاب العسكري (رؤية شرعيَّة واقعيَّة)

علوي بن عبدالقادر السقاف ( المشرف العام على موقع الدرر السنة )
و هو من علماء الحديث ( ملحوظة .. كُتب هذا المقال قبل طوام كثيرة و منها الدستور الكفري الجديد )

27 شعبان 1434هـ

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد محمدًا عبده ورسوله.

أمَّا بعد:

فإنَّ المنهج السَّلفيَّ هو منهج أهل السُّنة والجماعة، والذي هو في حقيقته يمثِّل الإسلام المحض، فكلُّ مَن اعتنقه فهو سلفيٌّ، وهو ليس حِكرًا على حزب، أو جماعة بعينها، فكلُّ مَن اتَّبعه وانتهجه وانتسب إليه فله نصيبٌ من هذا بقدْر اتباعه لقواعده وأصوله، وبقدْر قُربه وبُعده، وإصابته وخَطئه، ومِن القواعد الأساسيَّة لهذا المنهج: (أنَّ كلَّ أحد يُؤخذ من قوله ويرد إلَّا النبيَّ المعصوم صلَّى الله عليه وسلَّم)، وعلى هذا سار عملُ العلماء والأئمَّة في كلِّ وعصر ومِصر؛ قال ابن القيِّم رحمه الله - بعدما اعترض على رأي لشيخ الإسلام الهرويِّ -: (شيخُ الإسلام حبيبٌ إلينا، والحقُّ أحبُّ إلينا منه، وكلُّ مَن عدا المعصوم صلَّى الله عليه وسلَّم فمأخوذٌ من قوله ومتروك،....) ثم قال: (ولولا أنَّ حقَّ الحقِّ أوجب من حقِّ الخَلق، لكان في الإمساك فُسحةٌ ومتَّسع) ((مدارج السالكين)).

وهذه المقالة هي من هذا الباب؛ فلولا أنَّ حقَّ الحقِّ أوجب من حقِّ الخلق، لكان في الإمساك فسحةٌ ومتَّسع، لكن - وبعد تجاوزات تلوَ تجاوزات من بعض المنتسبين للمنهج السلفيِّ - ما بات السُّكوت يسع بلْ ما بات يجوز، وتخطئة حزب أو جماعة، أو عالم أو شيخ أو داعية، لا يَعني اتِّهامه في دينه أو غير ذلك، وفرْقٌ بين المتأوِّل وغيره، ولا يلزم من حُسن الظنِّ السُّكوتُ عن الخطأ؛ وخطأ العالم أو المنتسب للمنهج السلفيِّ أعظمُ من غيره؛ لما فيه من تضليل العامَّة، وإساءة ظنِّهم بالمنهج، كما أنَّ خطأ الواحد منهم لا يصحُّ (بل لا يجوز) أن يُنسب لكلِّ مَن يَنتسب للمنهج، فضلًا عن أن يُنسب للمنهج نفسه!

ومن قواعد المنهج السلفيِّ البدهيَّة: أنَّ الرُّجوع إلى الحقِّ واجب، والاستمرار على الخطأ بعد وضوحه وظهوره أعظمُ خطأً وخطيئةً من الخطأ الأوَّل، وعُذره أصعبُ!

ومِن أمثلة مَن وقع في الخطأ حزب النور السَّلفي التابع لجماعة الدَّعوة السلفيَّة بالإسكندرية في مصر، منذ دخول الحزب في اللُّعبة السِّياسيَّة وتأييده لليبروإسلامي عبدالمنعم أبو الفتوح، وانتهاءً بمساهمته في وضع خارطة مستقبل مصر والإطاحة بالرَّئيس الشرعي المنتخَب محمَّد مرسي، وأمور أخرى بينهما كثيرة.

وقد استمعتُ قبل يومين كلمةً للشيخ ياسر برهامي - أحد أكبر زعماء الدَّعوة السلفيَّة مظلَّة حزب النور - يُبرِّر فيها موقف الحزب، والذي شارك ممثِّل منه (جلال مرة - أمين الحزب) مع شيخ اﻷزهر، وبابا اﻷقباط، والبرادعي، وذلك تحت إشراف القائد العامِّ للقوات المسلَّحة الفريق أوَّل عبدالفتاح السِّيسي، ولقد هالني ما سمعتُه من الشَّيخ ياسر في كلمته المشار إليها من تبريرات واهية، وأسباب غير مقنِعة، تجاهل فيها أنَّ مِثل هذا التصرُّف يُزعزع رابطتَه بالمنهج السلفيِّ، ويَقلعها من جذورها!

وسوف أُجمل ما ذكره الشَّيخ في تِسع نقاط، وأُبيِّن خطورتها ومزالقها:

أولًا: برَّر الشيخُ فِعلَهم هذا أنَّه جاء حقنًا لدماء المسلمين، وردَّده كثيرًا، واستشهد بأحاديثَ عن حُرمة دم المسلم، وحمَّل جميع اﻷحزاب السِّياسيَّة والجماعات اﻹسلاميَّة المؤيِّدة للرئيس كلَّ قطرة دم تسقُط؛ بسبب عدم قَبولهم وخضوعهم ﻹرادة الشَّعب الذي نزل معارضًا للرئيس.

وقد نسي الشيخُ - أو تناسى- الدِّماء التي ستُسفك بسبب الانقلاب العسكريِّ الذي شارك فيه الحزبُ، والتي بدأنا نسمع عنها من اليوم الأوَّل الذي وقع فيه الانقلاب؛ فهل سيتحمَّل حزب النور كلَّ قطرة دم تسقط بسبب مشاركتهم الظالمة في هذا الانقلاب؟! وماذا لو سبَّب هذا اﻻنقلابُ - ﻻ قدَّر الله - المئات أو اﻵلافَ من القتْلى، أو حربًا أهليَّة طويلة المدى؟ أﻻ يتحمَّل الحزبُ وِزرَه؟!

ثانيًا: ذكر الشيخ أنَّ العسكر قد تعهَّد لهم بعدم مسِّ الشريعة.

وغريبٌ أن يصدُر هذا من زعيم لتيَّار سلفي عريض في مصر، وقد تناقض الشيخُ في كلمته هذه القصيرة؛ حيث ذكر هنا أنَّ الجيش تعهَّد بعدم مسِّ الشريعة، وبعدها بدقائق ذكَر وهو يعدِّد فائدة وجودهم في اﻻجتماع: أنَّهم أقنعوا الحضور بتعطيل الدستور مؤقَّتًا بدلًا من إلغائه كليَّةً، وهذا يعني أنَّ هذا الجيش الذي تعهَّد بعدم مسِّ الشريعة أراد أن ينقُض الدستور الذي فيه رائحةُ الشَّريعة! بل نقضَه وعطَّله مؤقتًا، وبهذا يكون قد مسَّ الشريعة قبل أن ينفضَّ الاجتماع. ثم إنَّ المجلس العسكريَّ حَكم مصر قرابة عام ونِصف؛ هل حَكم فيها بالشَّريعة؟! وإبرازه لبابا الأقباط والبرادعي المصرِّحينِ برفض الشَّريعة، قرينةٌ واضحة على موقفهم من تطبيق الشَّريعة، ثمَّ ألا يعلم الشيخ أنَّ المؤسَّسة العسكرية المصريَّة مؤسسة قديمة لها مشروعها المتناغم مع الغرب ولها كثيرٌ من المصالح في داخل البلاد وخارجها والتي ستصطدم حتمًا مع أي مشروع آخر يدعو إلى تغيير الحال في مصر إن تمكن من ذلك؟! فكيف يُـوثَق بمن هذا حاله؟! وهل سيترك الجيش مشروعهم القديم المتجذر في المؤسسة لينفِّذوا رغبة الشعب حال خروجهم في الميادين، أم أنه سيستغل الشعب وبعض التيارات الوطنيَّة والإسلامية لتحقيق أهدافه؟!

ثالثًا: ثم تحدَّث الشيخ عن نزول ملايين المعارضين، وذكَر أنَّهم ليسوا كلُّهم فلولًا وﻻ علمانيِّين، وأنَّه كان ﻻ بدَّ من النُّزول على رغبة هذه الجماهير، وإلَّا سُفكت دماء ... إلخ.

وهذا الكلام فيه صواب، وفيه مغالطة

فأمَّا الصَّواب: فنعَمْ خرجت أعدادٌ كبيرة من المصريِّين تطالب بإسقاط الرِّئاسة، ونعم ليسوا كلُّهم فلولًا ولا علمانيِّين

وأمَّا المغالطة هنا - والتي أهملها الشيخ تمامًا - فهي: مَن الذي أخرج هذه الجماهير؟ ومَن الذي جيَّش لها، وأنفق عليها ملايين الجنيهات منذ أشهر، بل وتوعَّد بها؟ وماذا عن الجماهير اﻷُخرى المضادَّة لهم والمؤيِّدة لشرعيَّة الرَّئيس؛ أليست أكثرَ بشهادة كلِّ مبصِر، وخاصَّة في اليوم التالي؟! بل لو أنَّ قائلًا قال: إنَّ الانقلاب العسكريَّ قد يكون هو السببَ الأقوى والمباشر في سفك الدِّماء؛ لأنَّ الملايين المحتشدة المؤيِّدة لمرسي قبل الانقلاب لا يمكن أن ترضَى بالانقلاب، وسيقاومونه كثيرًا - لَمَا جانب هذا القائل الصَّواب، بل الواقع التالي للانقلاب شاهدٌ لصحَّته.

رابعًا: ذكر الشَّيخ أنَّهم سَعَوا في إقناعهم بتعطيل الدستور مؤقَّتًا بدﻻً من إلغائه، وأنَّ هذه إحدى مناقب المشاركة في وضْع خارطة المستقبل.

وقد ذكرتُ التناقض بين هذا وبين تعهُّد العسكر بعدم مسِّ الشريعة، وأضيف هنا: أنَّه ليس هناك فرقٌ ألبتةَ بين تعطيل الدُّستور مؤقَّتًا وبين إلغائه؛ ﻷنَّ القوم لو أرادوا تطبيق الدستور لما عطَّلوه مؤقَّتًا، لكنَّهم وافقوا على تعطيله مؤقَّتًا لامتصاصِ غضبة الجماهير، وبعد اﻻنتخابات سيأتي رئيسٌ جديد، وحكومة جديدة، ودستور جديد.

خامسًا: استشهد الشيخ بحادثة مقتل عثمان رضي الله عنه، وأنَّه منَع الصَّحابة من الدِّفاع عنه؛ خشيةَ إراقة الدِّماء، وأنَّه كان يجب على الرئيس مرسي فِعل ذلك.

وهذا استشهاد مع الفارق، بل الفوارق، وخشية اﻹطالة أكتفي بفارق جوهريٍّ واحد، وهو: أنَّ عثمان رضي الله عنه رضِيَ أن يُقتل؛ حتى ﻻ يَقتتل المسلمون بسببه ﻻ بسبب الدِّين، فهو على يقين أنَّ حُكم الشَّرع في زمنه ليس متوقِّفًا على حياته، وأنه إذا قُتل لن يأتي كافر أو زِنديق يحكُم المسلمين وفيهم أكابرُ الصَّحابة، وفي مُقدِّمتهم عليٌّ رضي الله عنه، أمَّا في حادثة مصر هذه، فاﻷمر مختلف تمامًا؛ فعزْلُ مرسي الآن يعني إقصاءَ الحُكم اﻹسلاميِّ في هذه المرحلة، نعَمْ لو كان الخلاف بين مجموعة من الإسلاميِّين الذين يرغبون في تطبيق الشَّرع، وكان الحُكم بينهم لا يخرج عنهم، لصحَّ اﻻستشهاد، ولقلنا: ﻻ يجوز أن تُسفك الدِّماء بسبب فلان أو فلان، لكن ما أحوجَنا إلى دقَّة الفقه والاستنباط، وخاصَّة عندما تدلهِمُّ الخطوب، وتُثار الفتن!

ثم إنَّ هذا استشهاد غير موفَّق وفي غير محلِّه، بل الصَّواب أنَّه يُستشهد بفِعل عثمان رضي الله عنه على صِحَّة ما فعَلَه الرئيس، لا على خِلافه كما زعم الشَّيخ؛ فمُحمَّد مرسي سلَك مسلك الخليفة الراشد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه في رفْضِه التنازُل عن الحُكم، ولو أدَّى هذا إلى سَجنه أو حتَّى قتْله، وحزب النُّور أقربُ في موقفه هذا إلى موقف قتَلَة عثمانَ رضي الله عنه.

سادسًا: تحدَّث الشيخ عن أنَّهم عرَضوا على الرِّئاسة حكومة ائتلاف تُرضي الجميع، فرفضتْ الرِّئاسة ذلك.

ومعنى حكومة ائتلاف (وهو مطلب غربيٌّ كما في سوريا اﻵن) أن تتشكَّل الحكومة من جميع أطياف المجتمع: اﻹخوان، والسلفيِّين، والليبراليِّين، والعلمانيِّين، واﻷقباط، والمستقلِّين، ومن اﻷحزاب اﻷخرى اليَساريَّة وغيرها؛ فكيف يصدُر هذا من زعيم وقائد أكبر حِزب أو جماعة سلفيَّة في مصر، مع تنافي هذا الأمر مع ثوابت المنهج السَّلفيِّ مِن أنَّه لا يجوز تولية الكافر على ‍المؤمن ولايةً عامَّة؟! فإنْ كان ذلك من باب أخفِّ الضَّررين؛ فهل هذا أخفُّ ضررًا أم بقاء الرئيس محمَّد مرسي على ما في فترة حُكمه من أخطاء أو مؤاخذات؟!

سابعًا: تحدَّث الشَّيخ عن استمساكهم بالشَّريعة، وقال: لم نتنازل عن الشَّريعة.

وﻻ أدري عن أيِّ شريعة يتحدَّث؟! فإذا كان الدُّستور الذي ينصُّ على تطبيق الشريعة - على ما فيه من مخالفات جِسام - قد عُطِّل العمل به بموافقتهم! وإذا كان الرئيس الجديد الذي توافقوا عليه مجهولًا لا يُعرف حاله، وإذا كانت خُطَّة المستقبل وضعها خائنٌ، وعلمانيٌّ، ونصرانيٌّ؛ فعن أيِّ شريعة يتحدَّث الشَّيخ؟! لكن من باب حُسن الظن الواجب نقول: لعلَّه يعني لم يتنازلوا عن الشَّريعة نظريًّا واعتقادًا؛ ﻷنَّ هذا الفِعل كفر ورِدَّة، أمَّا عمليًّا وتطبيقًا، فلا شكَّ أنَّهم - بفعلهم هذا ومشاركتهم هذه - أسْهموا في تقويض محاولة تطبيق الشَّريعة.

ثامنًا: تحدَّث الشيخ عن المصالح والمفاسد، وأنَّ ما فعلوه كان لتقليل المفاسد والشُّرور.

ومبدأ تقليل المفاسد والشُّرور مبدأ إسلاميٌّ أصيل، لا نختلف عليه، لكنْ أيُّ مصلحة في خَلْع رئيس مسلِم تمَّتْ بيعته من قِبل المصريِّين، والبديل علمانيٌّ أو ليبراليٌّ؟! وأيُّ مصلحة في وَأْد التَّجرِبة الإسلاميَّة السياسيَّة؟! وأيُّ مصلحة في تعطيل أفضل دُستور مرَّ على مصر في الزَّمن الحاضر؟!

تاسعًا: ثمَّ ذكر أنَّهم اتُّهموا بموالاة أعداء الله، ونفَى عن نفسه وحزبه هذه التُّهمة.

ورغم أنَّ الواجب حسن الظنِّ بهم، إلَّا أنَّ اﻻجتماع مع أعداء الله من النَّصارى والعلمانيِّين، ووضْع خُطَّة - أو على اﻷقلِّ الموافقة على خُطة - تنصُّ على عزل رئيس مسلِم بُويع من قِبل الشَّعب، مقابلَ الإتيان برئيس أحسن أحواله أنَّه مجهولٌ وغامض، ومعيَّن من قِبل العسكر، لا يمكن أن يُفسَّر إلَّا أنَّه مواﻻة، بل قد يكون فيه نوعُ مُظاهرة ﻷعداء الله على ‍المؤمنين، وفي المظاهَرة معنى النُّصرة، وهي أعظمُ من المواﻻة، ولكنَّنا نتأوَّل لهم، غفَر الله لنا ولهم.

وقد كان بإمكان حِزب النُّور اعتزالُ هذا اﻷمر إنْ كان اشتبه عليهم، ولم يعرفوا فيه الحقَّ من الباطل، كما فعل بعض اﻹسلاميِّين وبعض طلبة العلم السلفيِّين.

ولا أدري كيف غابت المعاني القرآنية عن الشَّيخ وزعماء الحزب، وأعداء الله تعالى هم هم؛ {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167] فـ {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]، وينفقون أموالهم، ويتَّخذون كلَّ وسيلة، ويمكرون كلَّ مكرٍ وحيلة؛ لأنَّهم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف: 8]؟! ولكن الله تعالى لهم بالمرصاد، وهو سبحانه {مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].

وكيف غاب عنهم ما استقرَّ من منهج أهل السُّنة والجماعة من عدم جواز الخُروج على الحاكِم المسلم الذي لم يُرَ منه كفرٌ بواح؟! وهو مَن رضي به المسلمون، واستتبَّ له الأمر، سواء بالتغلُّب أو الانتخاب أو التَّعيين.

لكن قد يغترُّ إنسانٌ بقوَّته أو ماله، وتغترُّ جماعة بكثرة أتباعها، ويغترُّ حزب بفوزه في انتخابات، فيُنسي هذا الاغترارُ مثلَ تلك المعاني الربَّانيَّة، والأصول المستقرَّة.

وممَّا يوجب على المرء الكتابة في هذا الموضوع ما لاكتْه بعضُ الألسن، ودنَّست به الأوراقَ أحبارُ بعض الأقلام باتِّهام المنهج السَّلفي والتيَّارات السلفيَّة في مصر الحبيبة بما أقدم عليه حزبُ النور، مع العِلم أنَّه مجرَّد حزبٍ سلفيٍّ من أحزاب سلفيَّة أخرى، صحيح أنَّه أكبر الأحزاب السَّلفيَّة في مصر، لكن بمجموع الأحزاب والجماعات والأفراد السلفيِّين في مصر ليس هو أكثرَها، فالمنهج السلفيُّ في مصر تيَّار جارف، والحمد لله، وأتباعه كثيرون، ولا يُمكن لحزب أن يحتكرَه لنفسه؛ فمِن الهيئات والجماعات والأحزاب السَّلفية في مصر، والتي لا تؤيِّد حزب النور في سعيه للانقلاب العسكريِّ، ويؤيِّدون شرعيَّة الرَّئيس المنتخَب (على اختلاف بينهم في بعض الرُّؤى والتوجُّهات):

1- الهيئة الشرعيَّة للحقوق والإصلاح، ومن أبرز علمائها السلفيِّين:

على السالوس، وطلعت عفيفي، ونشأت أحمد، وعُمر بن عبد ال‍عزيز القريشي، ومحمَّد عبد المقصود عفيفي، والسيِّد العربي، ومحمَّد يُسري، وحازم أبو إسماعيل وقد أصبح الآن يتبعه جموعٌ غفيرة.

2- جبهة علماء الأزهر، وفيها كوكبةٌ من علماء الأزهر الشُّرفاء.

3- مجلس شورى العلماء (وفيهم عددٌ من علماء أنصار السنة المحمدية بمصر)، ومن أبرز أعضاء المجلس: جمال المراكبي، وعبد الله شاكر، ومصطفى العدوي، ووحيد عبد السَّلام بالي، وسعيد عبد العظيم، وأبو إسحاق الحويني، ومحمَّد حسان، ومحمَّد حسين يعقوب.

4- الجبهة السلفيَّة (وهي رابطة تضمُّ عدَّة رموز إسلاميَّة وسلفيَّة مستقلَّة، كما تضمُّ عدَّة تكتُّلات دعوية من نفس الاتجاه، ينتمون إلى محافظات مختلفة في جمهورية مصر العربية)، ومن أبرزهم: خالد السَّعيد، وهشام كمال.

5- الجماعة الإسلاميَّة (حزب البناء والتنمية)، ومن أبرز قادتهم: كرم زهدي، وعبود الزُّمر، وطارق الزُّمر، وصفوت عبد الغني، وأسامة حافظ، وعصام دربالة، وعاصم عبد الماجد، وعبد الآخر حماد، وغيرهم.

6- حزب الأصالة السلفي: ويرأسه حاليًّا إيهاب شيحة.

7- حزب الوطن السلفي: ويرأسه عماد عبد الغفور ونائبه يسري حماد.

8- التيار الإسلامي العام: ورئيسه حسام أبو البخاري.

9- كثير من أهل سيناء، والذين يغلب عليهم المنهج السَّلفي، مثل: تحالف القوى الإسلاميَّة والوطنيَّة والسياسيَّة والثوريَّة بشمال سيناء.

10- سلفيون انشقُّوا عن حزب النور وخالفوا آراء الحزب: كعضو الهيئة العليا للحزب محمَّد عمارة، وإيهاب عُمر مسؤول الدعوة السلفيَّة في شمال سيناء الذي انضم إلى المتظاهرين المؤيدين للرئيس محمد مرسي، وأحمد أبو العنين رئيس الدعوه السلفيه بمحافظة الدقهليه، الذي صرَّح أن انشقاقه من الحزب بسبب تعاونه مع النصارى والعلمانيين ضد الإسلام.

11- كما أنَّ هناك قوى وتحالفات وطنيَّة غير الإخوان والسلفيِّين شكَّلت (الائتلاف الإسلامي)، ويضمُّ جميع الأحزاب الإسلاميَّة عدَا حزب النور، وهدف الائتلاف كما نصُّوا عليه: حماية الشَّرعيَّة، وعودة الرئيس محمَّد مرسى إلى منصبه؛ لأنَّه الرئيس الشرعيُّ للبلاد.

هذا داخل مصر، أمَّا خارجها فجمهور علماء أهل السُّنة ودُعاتهم لا يقرُّون حزب النور فيما ذهب إليه، يُعرف ذلك من تصريحاتهم وخُطبهم وكتاباتهم وتغريداتهم على (تويتر).

وختامًا: ليُعلم أنَّه ليس فيما ذكرته تزكية للعملية الديمقراطية، ولا لجماعة الإخوان المسلمين أو حزب الحرية والعدالة أو محمد مرسي أو الدستور الأخير بل لأن هذه المعركة الشَّرسة، وهذا التَّخطيط الإبليسي المقصود منه مواجهة التيَّار الإسلامي ككلٍّ، وإحباط المشروع الإسلامي برُمَّته، وإفشال أوَّل تجرِبة في هذا العصر لإقامة حُكم إسلاميٍّ في مصر.

ولا شكَّ أنَّ دين الله تعالى ظاهر ‍منصور، والله ‍غالب على أمره، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].

والواجب على المسلمين وعلى الدُّعاة إلى الله في كلِّ حين، وفي مِثل هذه الأوقات على وجه الخصوص أنْ يتذكروا النُّصوص الآمرة بالاجتماع على الحقِّ، والنَّاهية عن الفُرقة، وأن يتعالَوْا على مصالحهم الحزبيَّة وعلى خلافاتهم الشخصيَّة، وأن يتَّهم الفردُ نفسه، وتتهم الجماعة رأيَها في الفُرقة، وأن تصحِّح نظرتها ومنطلقاتها وموقفها بالاستماع إلى غيرها من أهل الغَيرة على الإسلام، وأن يُطبِّقوا حقيقة فقه الأولويات، ومعرفة خير الخيرين من شرِّ الشرَّين، فالمسلم خيرٌ من العلمانيِّ، والحاكمُ الذي تتحقَّق فيه شروط الولاية خيرٌ من الحاكم الذي لا يَستوفي هذه الشُّروط، بل قد يستجمع نواقضَها! ومن القواعد الفقهيَّة المقرَّرة: أنَّ الخير الناجز لا يُترك لمفسدة متوهَّمة، و لا يُترك حقٌّ ثابت لمتُوهَّم.

وكلمةٌ أخيرة لعلماء وقادة الدعوة السلفية بالإسكندرية:

إنَّ أشدَّ ما نخشاه هو أن يؤثِّر هذا الموقف السياسي الأخير لحزب النور على الدعوة السَّلفية التي كانت لها جهودٌ عظيمة وآثارٌ طيبة ليس في الإسكندرية فقط بل في مختلف أنحاء مصر وخارجها، ونؤكد على ضرورة استمرار الدعوة السلفية في الجانب الدعوي والتربوي مع استدراك الأخطاء التي وقعوا فيها في العمل السياسي والرجوع لأهل العلم واستشارتهم في المسائل الجسام التي تتعلق بالأمة.

كما ندعوهم إلى الانضمام إلى مؤيدي الشَّرعية من الإسلاميين وغيرهم، والسرعة في تدارك الأخطاء قبل فوات الأوان لتجنب مزيد من الخسائر، والمبادرة بإعلان رفض الانقلاب على الرئيس المنتخب بعد أن ظهرت بوادر الاستبداد والإقصاء للإسلاميين بغلق القنوات الفضائية المؤيدة للشرعية، والاعتقالات، وترشيح رموز العلمنة لرئاسة الحكومة، وغير ذلك، فهؤلاء القوم لا عهدَ لهم ولا أيمانَ لهم، وما اتَّخذوهم إلَّا كغطاء لما يكيدونه لمصر، وكلُّنا أملٌ في أوبةٍ حميدة لإخواننا وهذا هو الظنُّ بهم أنَّهم رجَّاعون للحقِّ، وقَّافون عند حدود الشَّرع، وبما لهم من سابقة في الدَّعوة إلى الله تعالى، وتعليم النَّاس الخير، وهذا من محاسن المنهج الذي ينتسبون إليه.

اللهمَّ اجمع كلمة المسلمين على الحقِّ.

والحمد لله ربِّ العالمين.

منذ 11 عام و 4 شهور
محمود سالم

هذه بعض النقولات رأيت أن تكون في مقام واحد:=لعدم التضجر من كثرة التتابع .
يهود:أهل الكذب والغدر،قتلة الأنبياء،أكلة السحت والربا،أخبث الأمم طوية،وأبعدهم عن الرحمة،بيت السحر والحيل،وأخبثهم أعقلهم ابن القيم
الترياق المجرّب من أحس بتقصير في قوله أو عمله أورزقه أو تقلّب قلبه فعليه بالتوحيد والاستغفار؛ففيهما الشفاء إذا كان بصدق وإخلاص. ابن تيمية
من المتعذر الحكم على مشاعر الإنسان بما قد يأتيه في أمر معين ؛ فالمرء في حال ليس هوهو في جميع الأحوال ...غوستاف لوبون
اللذة عارضة والرغبة أبقى ؛ لذلك يقاد الناس برغباتهم أكثر مما يقادون باللذات .. غوستاف لوبون

لا تغتفر المرأة للرجل أن يستنبط ما يجول بخاطرها من خلال كلامها .. غوستاف لوبون
من ضرورات فنّ سياسة الأمم ؛ معرفة طائفة من الألفاظ المؤثرة ، لأن فعلها أشدّ من فعل الأدلة العقلية ‍غالبا .. لوبون " لغة الإعلام الموجِّه "
إذا اجتمع القوم ؛ تولّد فيهم روح كلّي مغاير كلّ المغايرة لروح كلّ فرد منهم .. غوستاف لوبون
خلوّ الأمة من ماض كالولايات المتحدة : قوة لها ، وضعف فيها معا .. غوستاف لوبون
(هو مشاهد في التجربة العادية أن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة..ويثور بينهم الخلاف)الشاطبي
(الحذر الحذر من مخالفة الأولين!فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان)الشاطبي،ولا يخلو كتاب له من التنبيه-مراراً-على هذا
لابن الرومي: إذا أذن الله في حــاجـة***أتــاك النــجــاح بــهــا يــركضُ
أكثر صبر العشاق من قلة الحيلة. #الرافعي
ويل للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطان عليهم بينه وبين النبي مثل ما بين دينين مختلفين. ويل يومئذ للمسلمين! ويل يومئذ للمسلمين! #الرافعي
، ان الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواهما #الرافعي
للمعذّرين.. إذا كنتَ تؤذى بحرّ المصيف *ويُبس الخريف وبرد الشتا ويلهيك حسن زمان الربيع *فأخذك للعلم قل لي متى؟ قاله ابن فارس"ت٣٩٥"
قيل لخالد بن صفوان : أي إخوانك أحبُّ إليك ؟ قال : الذي يغفر زللي ، ويقبلُ عِللي ، ويسدُّ خللي . (عيون الأخبار، لابن قتيبة: 3/17)
الزواجر الذهبية: "ماأقبح بالعالم الداعي إلى الله الحرص وجمع المال." الحافظ الذهبي في السير٤٨٢/١٧
واشتقاقها [ البعوضة ] من البَعْض ؛ لأنها كبعض البقّة ! .. .. ( شمس العلوم ) .
كان زكي مبارك يقول : الصدق كدّر حياتي . والطنطاوي قال : لا يعيش من لا يساير ويُنافق ويذل ويَتزلف !!
من استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأيّ وجه كان ، وفسد خُلُق الخير فيه ، لم ينفعه زكاء نسبه ولا طيب منبته ! " ابن خَلدون "
ابن تيمية: قال تعالى:(وفيكم سماعون لهم) فأخبر أن في ‍المؤمنين من يستجيب للمنافقين ويقبل منهم, فإذا كان هذا في عصر النبوة فما بعده أولى". احذر
كانت وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بسجن القلعة، والقلعة فيها علو وارتفاع، فتذكرت قول أبي الحسن الأنباري: علو في الحياة وفي الممات..
(وفي كتاب"تحقيق الصفاء"لمحب الدين الطبري:أن من أرّخ مؤمنا فضلا عن عالم عامل فكأنما أحياه،ومن أحياه فكأنما أحيى الناس جميعا)النفَس اليماني٢٨٢
(من طريقته[عبدالصمد الجاوي]إذا وصل إليه الطالب يسأل عن حاله،فإذا عرف ملازمته لخصلة خير أطال المقال في مدحها ليزداد ملازمة لها)النفَس اليماني
"وأما مصر فقد دخلت في الدور المجهول ، وسيكون إما لها وإما عليها " من رسالة لطاهر الجزائري إلى تلميذه محد كرد علي ، سنة ١٣٢٨
وما يخاف على المصريين إلا من بعضهم في بعض كما جرت به العادة " ابن تيمية مجموع الفتاوى ج٣ ص٢٦٩
ينبغي لكلِّ مَنْ قُهرَ وبُغيَ عليه أن يستغيث بالله تعالى ، وإنْ صبر وغفر فإنّ في الله كفايةً ووِقايةً . (سير أعلام النبلاء ١٨ / ٣٠٧)
علاج التقصير مع القريب: إذا وجد العبد تقصيراً في حق القرابة،والأولاد،والجيران،والأخوان،فعليه بالدعاء لهم،والاستغفار.. ابن تيمية
معاينة ثم محوٌ! "كنتُ أعرفُ حلية الصحابة،وصفتهم،كأني أنظر إليهم،فلما اشتغلتُ بالكتابة للسلطان،ذهب ذلك عني." قاله الحافظ الكلاباذي"ت٣٩٨"
"إذا رأيت الإمام في المحراب لهجاً بالقراءات وتتبع غريبها فاعلم أنه فارغ من الخشوع محب للشهرة والظهور نسأل الله السلامة في الدين" الذهبي .
" لا يهمّني مَن تكون .. بل يهمّني ما تقول.
إن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم ! " ابن خلدون "
قرأتُ في كتاب " حضارات الهند " : العلم أطيبُ النعم ، فلا يُمكن نزعه من إنسان ولا شراؤه منه ، فهو كنز لا يفنى !
كان " هتويديشا " يقول : ( لا رجل في الدنيا أسعد ممن يُحادث صديقاً ويُذتعرّضوا لنفحات ربهم من أصابته نفحة من نفحات رحمته سبحانه،أناخت بفنائه وفود الخيرات،وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات. ابن القيم
اكر صديقاً ! ! ) نعم .. أفتقد هذه السعادة !!
المستكبرون المتبعون أهواءهم مصروفون عن آيات الله،لايعلمون ولايفهمون. لما تركوا العمل بما علموه استكباراً عوقبوا بأن منعوا الفهم. ابن تيمية(
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغيرالحق) قال سفيان بن عيينة:أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي.
عادة ابن إسحاق (صاحب السيرة) فيما لم يسمعه من شيوخه أن يقول: ذكرَ فلانٌ. قاله ابن خزيمة. [موافقة الخبر1/ 372]

في ( الوافي ) عن " ابن أفلح البغدادي " [ت:533] أن له دارا : كان فيها حمام لمستراحها أنبوب ؛ إن فرك يمينا جرى سُخنا وإن فرك شمالا جرى باردا !
(ألقى الله في قلبي من الشباب محبة التدريس،فلم أقرأ كتاباً إلا درسته بعده،فحصل لي استعداد تام في الفنون ولم يتعسر علي كتاب)اللكنوي
اختصر عبدالرحمن بن إسماعيل الشهير بأبي شامة " تاريخ دمشق " في عشرين مجلدا !! ?
وكان الأمل أن يتعقب الطابعون أثر معجم البلدان ويعلقوا على ما فاته من البلدان والمواقع التاريخية والبلاد المستجدة .. عباس العزاوي .
أعجبني وصف العزاوي لابن خَلكان : هو دائرة معارف للأشخاص ! والزركلي ينطبق عليه هذا الوصف أيضاً ..
قال الإمام التابعي إبراهيم النخعي: "كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته؛ لكي يحسن ظنه بربه".
(إذلال المهنة:اتصلت للمرة السادسة برئيسة التحرير عن أتعابي المتأخرة ثلاثة شهور،سألتني:هل أنت بحاجة شديدة لهذه المئة باوند؟!!)ألبرتو مانغويل
(عليك بالكتب التي وضعها[الشافعي]بمصر،فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها،ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك)للإمام أحمد من مناقب الشافعي للبيهقي
مزايين"البقر"! كان المؤيد بالله قليل العقل،وله نهمة بجمع البقر البُلق،وأعطى مالا عظيما لمن جاءه بحافر حمار،زعما أنه حافر حمار ال‍عزيز الذهبي
(وعسى أن يجعلوا هذا التعليق[على شرح تنقيح الفصول]حجر الأساس،فيشيدوا عليه من صروح المعارف ما يبهت الناس)الطاهر بن عاشور
(جاء بحمدالله[أصول الإنشاء والخطابة]كتابا وافيا بما لاغنى عن معرفته للمنشيء والخطيب،كافيا عن المطولات بلمحة تعني اللبيب)الطاهر بن عاشور
(رأيت أن أضع مختصرا[هو موجز البلاغة]يلم بمهمات علم البلاغة ليكون كالمقدمة للتفتازاني)(وأرى فيه للقانع من هذا العلم مقنعه وبلاغه)ابن عاشور
فيم انتقامك من قلب عصفت به ** لم يبقَ من موضع فيه لمنتقم ! .. .. " إبراهيم ناجي " .
ابن تيمية يوبخ من أدمن على الطاعة العمياء: "والأمير إذا كان مضيعاً للحدود،أو عاجزاً عنها لم يجب تفويضها إليه،مع إمكان إقامتها بدونه."
كان يقال : " كفى مُخبراً عما مضى ما بقي ، وكفى عبراً لأولي الألباب ما جربوا" [ عيون الأخبار ٣٤/١]
كان ابن الأنباري بخيلا، فوقف سائل متذاكي وقال: قد أجمعَ أهلُ بغداد أنك بخيل، فأعطني درهما حتى أخالفهم، فضحك ولم يعطه شيئا! طلع أذكى منه!!
ومتى قعد الأفرامن النصوص " المخيبة للآمال " : الآن بعد مرور ٤٠ عاما ، أجد أن الحياة لم تعاملنا المعاملة التي كنا نريدها أو نتوقعها " جلال أمين
ومتى قعد الأفراد عن تعاطي أسباب الكمال فشت النقائص في المجموع. الآثار (٢٠١/١)
(أخبرني شيخنا القاضي سعدالدين مسعود بن زيد بن أحمد الحارثي[تأمل]عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه كان يقول:كتاب الأغاني كتاب ممتع!)الطوفي
عبدالله بن زيد المازني ، الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قُتل يوم الحرّة ، وهو الذي قتل مسيلمة الكذّاب ! " الذهبي "
ليس من الأدب أن تُجيب من لا يسألك ! " أبو عمرو بن العلاء "

قال يحيى بن معين : ما رأيت مثل أحمد بن حبنل صحبناه ٥٠ سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير ! مع التحية لدجاجلة الوعظ اليوم !
القلوب تتغير ، فلا ينبغي للمرء أن يكون مادحاً اليوم ذاماً غداً ! " سعيد بن العاص "
أعتقد أنّ عصر الطباعة والقراءة زائل لا محالة ، لكن بوصفي كاتبا والكلمات تعني لديّ الكثير ؛ أجد صعوبة في تصوّر البديل .. هنري ميللر

لا يكون موقف أطول غمة وأظهرحسرة وأدوم كآبة وأشد تأسفا وأكثر تلهفا من موقف الفراق بين المتواخيين وما ذاق ذائق طعما أمرمن فراق الخلين.ابن حبان
من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه ! " ابن حبان البستي "

كان الصحابة يستحبون أن لا يخرج البيت الرجل من بيته صباحاً إلا وقد نظر في المصحف . " التراتيب الإدارية "
ذكر السخاوي أن أول من لُقب في الإسلام ب " شيخ الإسلام " : أبو بكر الصديق رضي الله عنه !
الكتب المنسوبة إلى ابن سرين في علم الرؤيا من أهجن ما كُذب على السلف ! " عبدالحي الكتاني "
قال ابن حبيب : وقد أذّن للنبي عليه الصلاة والسلام أربعة : بلال ، وأبو محذورة ، وابن أم مكتوم ، وسعد القرظ ! " التراتيب الإدارية "
يقول هشام بن عروة : رأيتُ رسائل من رسائله صلى الله عليه وسلم كلما انقضت قصة قال : أما بعد . " الأدب المفرد "
كان ذلك شأنه عليه الصلاة والسلام في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات يقول:يسروا ولا تُعسروا! "ابن حجر" مع التحية لكل من أفسد ع الناس أرزاقهم
تهافت المتكبرين.. "العلم حرب للمتعالي،كما أن السيل حرب للمكان العالي،والذين يرهبون ربهم عملوا بما علموه،فآتاهم الله علما ورحمة" ابن تيمية
فقه النوازل: العلامة السعدي كتب ثلاث رسائل في الردّ على الملاحدة الشيوعيين وأشباههم،وكتب رسالة طويلة لرشيد رضا يقترح أن تهتم المنار بذلك.
"اللهم أقلِ العثرة، واعفُ عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك" قالها معاوية رضي الله عنه عند احتضاره
حضر أبو دلامة جنازة "حمادة" زوجة ال‍منصور، فقال له ال‍منصور: ما أعددت لهذه الحفرة؟ فقال: "حمادة" يا أمير ‍المؤمنين! فأضحكه
قال الإمام إبراهيم بن أدهم: كل ملك لا يكون عادلا فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيا فهو والذئب سواء، وكل من ذل لغير الله فهو والكلب سواء

كتب المستشرق " جولدتسيهر " إلى الشيخ " طاهر الجزائري " رسالة قال في توقيعه عليها : العبد الحقير الفقير إجناس كولدصِهَر المجري ! بيفكرني بنسخة فضل الاعتزال لتوما ارنولد كتب: تحقيق العبد الحقر ! ياسلام على التواضع :!

المواكب الملكية و"العلمية": خرج معاوية حاجاً معه ابن عباس رضي الله عنهم،فكان لمعاوية موكب،ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم. السير٣٥١/٣
في ( تاريخ الإسلام ) عن " الإمام المزني " صاحب " الإمام الشافعي " : وكان يُغسِّل الموتى تعبُّدًا ودِيانة .. وهو الذي غسَّل الشافعي !
إبراهيم الصولي كاتب المعتصم والواثق والمتوكل كان يقول : المتَصَفِّحُ للكتاب أبصَرُ بمواقع الخلل من مُنشِئه. [ثمرات الأوراق ص٣٣٦]

منقول

منذ 12 عام و 5 شهور
navigation