س / هل تُعرض على العامّي تفاصيل الاعتقاد أو يُسأل عنها مثل أن يُقال له : ( أين الله ؟ ) ؟
ج / أمّا التّفاصيل غير المقطوع بها ـ وهي الأكثر ـ فلا تُعرض على العوامّ في أكثر الأحيان، وإنّما يُكتفى بتعليمهم المجملات من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، والأصل في هذا هو حديث مجيئ جبريل يسأل عن الإيمان فلخّصه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للصّحابة في أصولة السّتّة مجملة ، ولذا قال الحافظ في "الفتح" : (1/118) : " ودلّ الإجمال في الملائكة والكتب والرّسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل إلا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التّعيين ...".
وأمّا أدلّة منع العوامّ من الخوض في كثير من تفاصيل الاعتقادات فيمكن تلخيصها في :
1 ـ عدم الدّليل القاطع الدّالّ على قول فصل في كثير من التّفاصيل، والإيمان في باب الاعتقاد يجزئ بالعلم بالقطعيّات المعلومات بالضّرورة سيّما للعوامّ ؛ فإنّه يسعهم الجهل بما دونها من الظنّيّات المعلومة بالنّظر والاستدلال، والتّفاصيل هي في الأغلب من هذه الظّنّيّات لا من القطعيّات.
2 ـ ثمّ عدم حاجة العوامّ للتّعرّض للتّفاصيل في الغالب؛ إذ غاية ذلك حصول تصوّرات لا يُبنى عليها عمل ولا زيادة إيمان بل أكثرها ممّا لا تستوعبها عقولهم فتكون فتنة على بعضهم، ولهذا أنكر مالك رحمه الله سؤال من سأله عن معنى الاستواء على العرش بخلاف الأمور الفقهيّة العمليّة الّتي يُحتاج إلى العلم بتفاصيلها لأنّ الأعمال مأمورٌ بها على وجوه مخصوصة مفصّلة كالصّلاة والحجّ ونحو ذلك ...
ولهذا أخرج الهروي في "ذمّ الكلام" عن أشهب بن عبد العزيز قال: سمعت مالكاً يقول: إيّاكم والبدع، قيل يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلّمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عمّا سكت عنه الصّحابة والتّابعون لهم بإحسان.
وأخرج ابن عبد البرّ عن مصعب بن عبد الله الزّبيري قال: " كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدّين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكلّ ما أشبه ذلك، ولا يحبّ الكلام إلا فيما تحته عمل، فأمّا الكلام في دين الله وفي الله عزّ وجلّ فالسّكوت أحَبُّ إليَّ لأنّي رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدّين إلّا فيما تحته عمل".
3 ـ ثمّ عدم درك العوامّ للحدّ الفاصل بين ما يسوغ فيه الخلاف من تلك التّفاصيل وبين ما يُجزم فيه منها بقول واحد ؛ فإنّ معرفة موارد الخلاف والاتّفاق قاصرة على العلماء ، ومن ثَمّ فهم الّذين يسوّغون الخلاف في مسائل الخلاف ، فيكون خلافهم فيها رحمة بخلاف العوامّ ؛ فإنّهم لعدم علمهم ومعرفتهم يتخرّصون ويتحمّسون فيُلحقون كثيرًا منها بمسائل الاتّفاق والعكس، فيتولّد عن ذلك بينهم من الإنكار والتّشديد وربّما من العداوة والبغضاء وربّما من التّهارج والاقتتال ما لم يأذن به الله بل ما اتّفقت الشرائع على النّهي عنه أشدّ النّهي.
فإذا كان الأمر مبنيّا على التّخرّص والمجازفة مع ما يؤول إليه من حصول الضّرر والمفسدة مع انتفاء الحاجة منه والمصلحة مع إجزاء الإيمان بدونه كما تقدّم : فإنّ ذلك يجعل الخوض في التّفاصيل من أوجب ما يُنهى عنه في دين الله في أكثر الأحيان.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (12/237) : " الواجب أمر العامّة بالجُمل الثابتة بالنصّ والإجماع، ومنعهم من الخوض في التّفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله".
وقال أيضًا (6/57) : "القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمل ; وهو = الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره . وأما الأعمال الواجبة : فلا بدّ من معرفتها على التّفصيل ; لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصّلة ; ولهذا تقرّ الأمّة من يفصّلها على الإطلاق وهم الفقهاء..للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة".
وقال أيضًا (6/56) : " وأما جمهور الفقهاء المحقّقين والصّوفيّة فعندهم أن الأعمال أهمّ وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها ; فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها وكثيرا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة ".
وقال أيضًا (6/59) : "المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد وقد تجب في حال دون حال وعلى قوم دون قوم ; وقد تكون مستحبة غير واجبة وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء".
وقد تكون معرفتها مضرّة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها كما قال علي رضي الله عنه: ( حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ; أتحبون أن يكذب الله ورسوله ) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ( ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ) .
قال ابن تيمية أيضًا (3/329) : "ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة ، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل".
وقال : "وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ; ولم يمكنه العلم بذلك ; فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصّلا وهو داخل في إقراره بالمجمل العام".
وقال الغزاليّ في "الإحياء" (1/58) : " وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه ومن غير تأويل وحسن مع ذلك سريرته ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده بل ينبغي أن يخلى وحرفته فإنه لو ذكر له تأويلات الظاهر اتحل عنه قيد العوام ولم يتيسر قيده بقيد الخوض فيرتفع عنه السد الذي بينه وبين المعاصي وينقلب شيطاناً مريداً بهلك نفسه وغيره بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة بل يقتصر معهم على تعليم العبادات وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار كما نطق به القرآن ولا يحرك عليهم شبهة فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك وبالجملة لا ينبغي أن يفتح للعوام باب البحث فإنه يعطل عليهم صناعاتهم التي بها قوام الخلق ودوام عيش الخواص" اهـ
وقال الغزاليّ أيضًا في "الرّسالة الوعظيّة" : " وليس عليه بحثٌ عن حقيقة هذه الصفات. وأن الكلام والعلم وغيرهما، قديم أو حادث، بل لو لم تخطر هذه المسألة حتى مات مؤمنا وليس عليه تعلم الأدلة التي حررها المتكلمون. بل كلما حصل في قلبه التصديق بالحق بمجرد الإيمان من غير دليل وبرهان فهو مؤمن. ولم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق".
وقال في رسالته "إلجام العوام" ص74 : "ﻓﻜﻴﻑ ﺴﺒﻴل ﺍﻟﺠﻭﺍﺏ ﺇﺫﺍ ﺴﺌل ﻋﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻤﺴﺎﺌل ؟ ﻗﻠﻨﺎ : ﺍﻟﺠﻭﺍﺏ ﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻤﺎﻟﻙ ﺭﻀـﻲ ﷲ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻻﺴﺘﻭﺍﺀ ﺇﺫ ﻗﺎل : ﺍﻻﺴﺘﻭﺍﺀ ﻤﻌﻠﻭﻡ – ﻭﺍﻹﻴﻤﺎﻥ ﺒﻪ ﻭﺍﺠﺏ ﻭﺍﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻤﺠﻬﻭﻟﺔ ، ﻭﺍﻟﺴـﺅﺍل ﻋﻨﻪ بـﺩﻋـة ، ﻓﻴﺫﻜﺭ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﺠﻭﺍﺏ ﻓﻲ ﻜل ﻤﺴﺄﻟﺔ ﺴﺌل ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻌﻭﺍﻡ ﻟﻴﻨﺤﺴﻡ ﺴﺒﻴل ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ ".
وقال ص 70 : " وذلك واجب على العوام لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه وخائض فيما ليس أهلا له، فإن سأل جاهلا زاده جوابه جهلا وربما ورطه فى الكفر من حيث لايشعر، وإن سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه ... فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التى ليست من قبيل معرفة الله عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية عجز كافة المعرضين عن الصناعات عن فهمها ... وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال هذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة كما كان يفعله عمر رضى الله عنه بكل من سأل عن الآيات المتشابهات، وكما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإنكار على قوم خاضوا فى مسألة القدر وسألوا عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: فبهذا أمرتم؟) وقال ( إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال ) أو لفظ هذا معناه كما اشتهر فى الخبر، ولهذا أقول يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة بالخوض فى التأويل والتفصيل".
وقال في "الرّسالة الوعظيّة" : " ومنع الكلام للعوام، يجري مجرى من الصبيان من شاطىء نهر دجلة خوفا من الغرق. ورخصة الأقوياء فيه تضاهي رخصة الماهر في صنعة السّباحة ".
فصل : حول قول الإمام البخاري رحمه الله : (الامتحان في الاعتقاد ابتداع)
قال العلّامة ولد الدّدّو حفظه الله في "سلسلة الأسماء" : "ّ والبخاري رحمه الله قال: (الامتحان في الاعتقاد ابتداع) في قصته مع أهل نيسابور حين كان مع محمد بن يحيى الذهلي فسألوه عن تكلمنا بالقرآن، فأجاب: بأن تكلمنا بالقرآن صفة من صفاتنا وصفاتنا مخلوقة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فشغبوا به فأخبرهم أن الامتحان في الاعتقاد ابتداع وبيّن لهم ذلك، وقد ذكر هذا الحافظ ابن حجر في هدي الساري مقدمة فتح الباري، وذكره الذهبي أيضاً ".
وقال : " وقد نصّ العلماء على أن الامتحان في الاعتقاد وسؤال الناس عن اعتقادهم ونحو ذلك بدعة في الدين، وأنه لا يحل إلا في موضعين:
أحدهما: من جاء من قبل الكفار هارباً فدخل إلى دار الإسلام، فيحل امتحانه ليعرف هل هو جاسوس للكافرين أو ليس كذلك، وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] .
الثاني: من كان مظنة الكفر ويراد عتقه، حيث يشترط الإيمان في الرقبة التي تعتق، فيحل امتحانها حينئذٍ حتى يعلم الإنسان إيمانها، وبشرط ألا تكون في الأصل من دار الإسلام، بأن كانت نسيبة من دار الكفر، أما من كان في دار الإسلام فلا يسأل من أجل العتق هل هو مؤمن أم لا، بل هذا من الابتداع )) .
وقال في "شرح كتاب التّوحيد" : " من كان رقيقا على الكفر أو من كان على الكفر فاسترق فأراد مسلم أن يعتقه حيث يشترط الإيمان في عتق الرقبة فحينئذ لا بد من امتحانه لأنه قد كان من أهل الكفر حتى يعلم هل دخل الإسلام لأنه لا يجزئ عتق رقبة غير مؤمنة في المواضع التي اشترط فيها الإيمان في الرقبة، ودليل ذلك حديث الأنصاري الذي كان عليه عتق رقبة فجاء بجارية له فعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فقال: أين الله فأشارت بإصبعها إلى السماء، ثم قال: من أنا؟ فقالت رسول الله، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة، فهنا امتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصل التوحيد، وأراد بذلك أنها كانت على الكفر، وأن الأنصاري يجب عليه عتق رقبة مؤمنة كما شرط الله الإيمان فيها، وإنما يمكن التحقق من ذلك بهذا الامتحان، وقد خفي هذا على كثير من عوام المسلمين فأصبحوا يمتحنون من لا يريدون عتقه من المسلمين، يمتحنون كثيرا من الأحرار بسؤالهم أين الله؟ ولا يقولون: من أنا، فلذلك لا بد من التنبيه على هذه المسألة لشيوع الخطإ والغلط فيها " .
وقال في "سلسلة الأسماء" : " ومن هنا يغلط كثير من الناس فيظن أن الامتحان بالإيمان إنما هو في صفة الفوقية، بل الإيمان يحصل حتى لو جهل الإنسان بعض صفات الله سبحانه وتعالى، ولا يجب الإيمان بها تفصيلاً، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لها: (من أنا؟) فهذا لا يقتضي إلا سؤالها عن الإيمان برسالته فقط ؛ لذلك قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) ، ومن هنا قال البخاري رحمه الله: (الامتحان في الاعتقاد ابتداع) " .
س / ما معنى قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للجارية : ( أَيْنَ اللَّهُ ؟ ) قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، وهل يدلّ هذا الحديث على علوّ الله تعالى على خلقه بذاته ؟
ج / الرّاجح هو إثبات فوقيّة الله تعالى وعلوّه على خلقه حقيقةً لمجموع الأدلّة على ذلك مع عدم المانع من الإثبات لعدم اقتضائه التّكييف والتّمثيل ، لكن حديث الجارية ليس فيه دليلٌ على ذلك الإثبات ولا نفيه ولا هو نصٌّ في محلّ النّزاع، فما ورد أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم" قَالَ لها : ( أَيْنَ اللَّهُ ؟ ) قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ ، قَالَ : مَنْ أَنَا ، قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" هو حديث صحيح له طرق متعدّدة بعضها عند مسلم في "صحيحه" ، لكن لم يتّفق الرّواة على لفظَي السّؤال والجواب فيه ؛ فقد جاء في بعض الرّوايات هكذا، وجاء في بعضها : قال : ( من ربّك؟ ) قالت: " الله"، وفي أخرى قالت: "في السّماء"، وفي أخرى : "فأشارت إلى السّماء" ، وفي أخرى قال : ( فمن الله؟ ) قالت: الّذي في السّماء، وفي أخرى: ( تشهدين أن لا إله إلا الله؟ ) قالت: نعم ... وهذه الرّوايات محتملة، والاختلاف الواقع بين ألفاظها ـ مع كون الحادثة واحدة ـ هو من تصرّف الرّواة وروايتهم للحديث بـالـمـعـنـى، ولا يُمكن الجزم ههنا بمطابقة لفظ بعضهم للّفظ المتلفّظ به في واقع القصّة ـ دون بعض، وإنّما الّذي يتوجّب هو توجيه النّظر إلى القدر المشترك من ذلك الـمـعـنـى، فيكون هو المقصود من السّؤال وجوابه، والسّياق والأصول يدلّان أنّ المقصود كان السّؤال عن مجمل شهادتها لله بالتّوحيد ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالرّسالة؛ ولذا اتّفقوا في لفظ السّؤال الآخر أنّه قال : ( من أنا؟ ) فقالت: أنت رسول الله، وذلك أنّ سبب السّؤالين كان معرفة المجمل من إيمانها لقول سيّدها في بعض الرّوايات : "يا رسول الله إنّ عليَّ رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة فأعتقها" ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم عقب ذلك : ( أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ) ، ومعلومٌ أنّ إيمان الشّخص إنّما يُعرف بإقراره بالشّهادتين، كما في الحديث المتواتر : "أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله" وغيره ، فليس السّبيل في ذلك هو امتحان النّاس في إثباتهم العلوّ الذّاتيّ ولا في نفيه، ولا هو في امتحانهم بشيء من تفاصيل الإيمان، والدّليل أنّ مسألة العلوّ الذّاتيّ من التّفاصيل أنْ لو قال مشركٌ " الله في السّماء" : لم يُحكم بإسلامه بمجرّد ذلك، وهو لو نطق بالشّهادتين ولم يقصد إثبات العلوّ الذّاتيّ لله : يُحكم بإسلامه ولو عند المُثبت، فلزم ذلك المُثبت أن يفهم أنّ محلّ الاختبار في هذا الحديث هو مجمل الإيمان والشّهادتين من حيث المعنى حتّى لو رجّح أنّ السّؤال إنّما حصل عن المكان لفظًا، فإنّ العبرة هي بالحقائق والمعاني لا بمجرّد الألفاظ والمباني، والله تعالى أعلم.
س / هل الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة في الاعتقاد هو خلاف لفظيّ أم حقيقيّ ؟
ج / أكثر الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة = لفظي؛ ومن ذلك في علوّ الله ؛ فالأشاعرة ينفون الجهة والمكان ويقصدون الجهة المخلوقة والمكان المخلوق إذ لازمهما تحيز باطل لكون ذلك من صفات الحوادث ، والحنابلة يثبتون جهة غير مخلوقة ومكانا غير مخلوق إذ اللازم تحيّز حق وهو الانحياز والبينونة من الخلق .
س / ما وجه تشدّد متأخّري الأشعريّة في نفي المكان عن الله ؟ وما شبهتهم في النّفي؟ وإذا سقطت شبهة النّفي هل يترجّح الإثبات ؟
ج / نفيه نفاة المكان من أهل السّنّة قصدوا نفي مكان مخلوق أي نفي الحدوث، مع إثبات جنس الصّفات كالعلوّ المعنويّ ونحوه، ومثبتو المكان منهم قصدوا إثبات مكان غير مخلوق وهو علو الله تعالى بذاته، وهذا هو الرّاجح من القولين فإن علو الله قائم بذاته كما أن سمعه قائم بذاته وكذا بصره وعلمه وسائر صفاته فلا وجه لنفيها من جهة تعلقها بالذات إلّا شبهة المعتزلة القائلين بأن تعلقها بالذات يقتضي حدوث القديم تعالى، وهذا تناقض وكفر؛ وذلك أن ما يثبته المثبتون صفات متعلقة بما هو حادث كتعلق السمع بالمسموع والبصر بالمُبصَر والكلام بالمخاطب به وهكذا ... فالمسموع وهو الصّوت = حادث له بداية فكيف يكون الله سميعًا بلا بداية؟ والمُبصر وهو الصّورة = حادث له بداية فكيف يكون الله بصيرًا بلا بداية ؟ والمخاطب بالكلام مخلوق فكيف يكون الله متكلّمًا بلا بداية؟ فكذا هنا قالوا : العلوّ يكون بالمقارنة بمن هو أسفل، وما هو أسفل = مخلوق؛ فكيف يكون الله عاليًا بلا بداية؟ فألجاهم ذلك إلى القول بأن معاني الصّفات حادثة كالسّمع والبصر والكلام والعلوّ مخلطين بين الصفة ومقتضاها، والصواب هو التفريق بين الأمرين؛ فإنّ رحمة الله مثلا أمر متعلّق بذاته، وليست هي آثار الرّحمة نفسها كالمطر، ولهذا قال تعالى : (( فانظر إلى آثار رحمة الله )) فالصّفات قديمة في نوعها ، والحادث هو مقتضاها فإنّه يتجدّد بحسب مشيئة الله، وعليه فهو تعالى عليم قبل المعلومات سميع قبل المسموعات بصير قبل المبصرات متكلّم قبل خلق المخاطبين وهكذا وهذا من حيث نوع الصفة، وأمّا التجدّد والحدوث فهو في متعلق الصّفة وهو المعلوم نفسه والمسموع نفسه والمبصر نفسه والمخاطَب نفسه، فكذا استواؤه تعالى على العرش، فإنّ الراجح أن ذلك بمعنى العلوّ الذّاتي لأنّه لا يلزم من علوه تعالى انتقال ولا حدوث وإنما الحدوث للعرش نفسه فإنّه حادث مخلوق، فسقطت شبهة نفي العلوّ الذّاتي.
فإن قيل : إذا سقطت شبهة النّفي بقي الأمر محتملا للنّفي والإثبات كليهما ، فكيف ترجّحون الإثبات؟
يُجاب : بوجود الأدلّة الخبريّة الكثيرة الّتي تفيد ظواهرها الإثبات دون وجود صارف صحيح يُنتقل به إلى التّأويل إلّا أوهامًا في العقل يُتخيّل معها القياس على المخلوق ونحو ذلك ممّا ينفيه المثبت فيسلم له الإثبات.
س / ألا يقتضي القول بأنّ الله قد خلق العالم في زمان معيّن أن يكون الزّمان سابقًا على الخلق والحدوث فيكون الزّمان مثله تعالى قديمًا، وذلك يقتضي القول بتعدّد القدماء ؟
ج / أمّا نوع صفة الخلق : فالله تعالى متّصف بذلك وبسائر صفاته أزلاً بلا بداية فإن صفاته تعالى كلّها قديمة النّوع كما تقدّم، وأمّا تعلّق الصّفة بآثارها فهذا يكون في زمان مخلوق؛ فخلق الله للخلق في زمان:
إن عُني بالزّمان فيه = الزّمان المخلوق الّذي نعلمه بالقياس العقليّ ونستدلّ عليه بالحركة والسّكون؛ فالله تعالى قد خلق الخلق والزّمان مقترنين لا يتقدّم أحدهما عن الآخر لأنّ كليهما محدث لا قديم، إذ القديم لا يُسبق بغيره.
و إن عُني بالزّمان فيه = الأزل وما لا بداية؛ فهذا الزّمان سابق للخلق وللزّمان المخلوق المقترنين، فالزّمان الّذي ليس بمخلوق = صفة لذاته؛ وهي صفة أوّليّته وقِدمه.
وأصل الإشكال في مثل هذا ناشئ عن عدم تصوّر زمان خير مخلوق كما ينفي النّافي المكان عن الله وعلوّه تعالى على خلقه لعدم تصوّره مكانًا غير مخلوق، وأمّا من أثبت المكان الّذي ليس بمخلوق ـ وهو العلوّ ـ والزّمان الّذي ليس بمخلوق ـ وهو القِدم ـ فيكون قوله هذا بهذا الاعتبار = سالمًا من المعارضة والتّناقض.
وبيان هذا فيمن لا يتصوّر زمنًا إلّا زمنًا غير مخلوق أنّه يتصوّر الزّمان المخلوق موجودًا قبل تمام خلق الله للخلق؛ فهذا إن قال : أنّ الزّمان محدث مخلوق، كان متناقضًا لأنّه يقتضي أنّ الخلق سابق للزّمان أيضًا.
وإن قال أنّ الزّمان قديم ووجوده ذاتيّ ، أدّى ذلك إلى الشّرك والقول بتعدّد القدماء، ولا ينجو من ذلك إلّا من جعل الزّمان من صفاته ، وهو أوّليّته تعالى وقِدَمه على التّفصيل السّابق في وحدة الموصوف وصفاته وتغايرهما.
والضّلال في هذا الباب هو إمّا في إثبات الأزل ـ الّذي هو الزّمان القديم ـ دون جعله من صفات البارئ تعالى؛ فهذا يتناقض من يقوله وهو يثبت وجود خالق واحد قديم، فمآل قوله ذلك هو الشّرك والقول بتعدّد القدماء، وهو اللاّزم الّذي فرّ منه أمثال المعتزلة فوقعوا فيه، وكذا يتناقض من يقوله وهو ينفي وجود خالق قديم لأنّ قوله يقتضي أنّ الزّمان هو الخالق القديم كما يقوله الدّهريّون والملاحدة ...
والمقصود هو أن الله تعالى خلق العالم ولم يكن قبل ذلك زمان مخلوق، وإنّما كان القديم بصفاته ولا خلق؛ أعني لا أثر حينها للمخلوقات وإن كان من صفاته القديمة الخلق أيضًا فإنّ القديم هو نوع صفة الخلق لا أثرها في الواقع كما هو الأمر في سائر الصّفات أيضًا؛ ولذا جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) وفي لفظ : ( ولم يكن شيء غيره ) وفي لفظ : ( ولم يكن شيء معه ، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض ) وفي لفظ : ( ثم خلق السّموات والأرض).
س / هل الاسم هو المسمّى أو غيره ؟
ج / التحقيق هو أنّ الاسم من حيث اللّفظ غير المسمّى كما عند النّحاة ، فإنّ موضوعهم الألفاظ ، واللفظ والذّات متغايران قطعا ، وأمّا من حيث معناه كما هو النّظر إليه عند غيرهم فيقتضي أنّه عين المسمّى في الخارج وهو غيره في الذّهن لدلالته على الذّات مع ما يُفهم من معناه من مدح أو ذمّ ، وهي الصّفات.
وعليه فثبوت كون الصفة غير الموصوف هو باعتبار العلم الذي هو ما في الذهن فقط ، وثبوت كون الصفة هي الموصوف هو باعتيار نفس الأمر وهو المعلوم نفسه ، فإن الصفة إنّما تقوم في الخارج بغيرها لا بذاتها ، وغيرها هو الموصوف نفسه.
س / علامَ بنى نفاة الصّفات من المعتزلة وغيرهم قولهم بمطلق النّفي؟ وكيف الردّ عليهم ؟
ج / نفاة الصّفات ينفونها لمقدّمة أولى وهي كون : ( الصّفة هي عين الموصوف والاسم هو ذات المسمّى ) عندهم، ومعلوم أنّ الموصوف المسمّى ههنا واحد لا شريك له تعالى فوجب أن لا يكون لأسمائه وصفاته معان متعدّدة وأنّها فقط أعلام على الذّات.
وأصل هذه المقدّمة هو من تخليطهم بين ما في الذّهن وما في الخارج، فإنّ الصّفة هي عين الموصوف والاسم هو المسمّى نعم، لكن محلّ ذلك الخارج والواقع الّذي لا ينفكّ فيه هذا عن هذا، وأمّا الكلام في هذا المقام فهو عمّا ينبغي أن يقع في الذّهن وفي علم المكلّف لا عن الواقع نفسه وما في الخارج.
ولذا فإن قيل: هل الصفات هي الموصوف أو غيره؟ قيل : التّغاير فيه إجمال ، فإن أريد بالغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدم الآخر، فالصفة هي الموصوف، وإن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فالصفة غير الموصوف.
وعليه فثبوت كون الصفة غير الموصوف هو باعتبار العلم الذي هو ما في الذهن ، وثبوت كون الصفة هي الموصوف هو باعتيار نفس الأمر وهو المعلوم نفسه، فإن الصفة إنّما تقوم في الخارج بغيرها لا بذاتها، وغيرها هو الموصوف نفسه، فانتفى التعدّد في الخارج كما هو واضح.
لكنّ هؤلاء النّفاة تنكّبوا القول بهذا التفريق مع وضوحه لأجل مقدّمة سابقة على هذه، وهي : ( بطلان تعلّق الصّفات بالحوادث )؛ وذلك أنّ الصّفات المقصود إثباتها = قديمة وهذا لا يكون لما هو معلوم من تعلّقها بخلقٍ حادث؛ فإنّه يقتضي أن يكون البارئ تعالى متّصفًا بمثل صفة البصر منذ الأزل مع أنّ المبصرات لا وجود لها حينئذ لأنّها حادثة، وكذا لو كان متّصفا بصفة السّمع لكان كذلك منذ الأزل، وهذا باطل عندهم أيضًا لأنّه إنّما خلق المسموعات بعد ذلك، وكذا قالوا في سائر الصّفات كالكلام والرّحمة أيضًا وغير ذلك من الصّفات أنّ تعلّقها بالحوادث يُبطل كونها صفات لأنّ الصّفات تكون قديمة والمخلوقات لا تكون إلّا حادثة، ومحصّل هذا أنّهم بنوا نفي الصّفات على هذه المقدّمة أيضًا؛ أعني بطلان تعلّق الصّفات بالحوادث لبطلان الحدوث عن الله وبطلان قدم الحوادث.
وهذا المقام قد خلّطوا فيه أيضًا بين الصّفة في ذاتها وبين متعلّقها، فإنّ قدم الصّفة هو قدمها في ذاتها، وذلك لا يلزم منه كون متعلّق الصّفة قديمًا مثلها، ومن ثمّ يبطل ما ألزموا به المثبتة من القول بقدم الحوادث؛ وبيان هذا أنّ متعلّق الصّفة هو أثرها المخلوق لا عين الصّفة؛ إذ الحوادث هي = آثار الصّفات كما قال تعالى : (( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها )) والآثار ليست هي الرّحمة نفسها، ومثل هذا التّفريق يوجب أن يكون القديم من الصّفات = نوعها، وأنّ الحادث = آثارها المتجدّدة؛ وهو معنى قوله تعالى : (( ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث )) فإنّ مثل هذا لا يقتضي أنّ جنس كلامه تعالى مخلوق أيضًا، وإنّما المقصود بكونه محدثًا مخلوقًا = تلاوة التّالي له ونزول جبريل به ونحو ذلك، وهكذا يُقال في صفة البصر أنّه تعالى بصير منذ القدم وقبل المبصرات، فذلك لا يتنافى مع كون المبصرات وجميع المخلوقات هي حوادث مخلوقة لم تكن في الأزل، لما بيّنّاه من الفرق بين ذات الصّفة القديمة وبين آثارها المخلوقة.
ومزيد النّظر يقتضي أيضًا أنّ الّذي يلزم منه القول بقدم الحوادث هو قولهم بنفي قدم الصّفات لا قول مخالفيهم بإثبات ذلك؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى قد قال : ﴿( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون )﴾ فيدلّ ذلك أنّ كلّ شيء مخلوق إنّما خُلق بكلمة ( كن ) ، فلو كان كلامه ونحوه من صفاته تعالى مخلوقًا ، لكان خلقَه بـكلمة : ( كن ) ، ومعلوم أنّ كلمة ( كن ) من الكلام أيضًا، فلو كانت هي مخلوقة لكان خلقَها بـكلمة : ( كن ) أخرى قبلها ، ولو كانت ( كن ) التي قبلها مخلوقة لكان خلقَها بـكلمة : ( كن ) أخرى قبلها ... وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له، وما لا نهاية له في القدم = قديم لا حادث، فيكون صفة لله، وإلّا للزمهم القول بقدم الحوادث وتعدّد القدماء (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، وأقدم من رُوي عنه إلزامهم بهذا = هو البويطي صاحب الشافعيّ ؛ قال الربيع : سمعت البويطي يقول : إنما خلق الله كل شيء بكن ، فإن كانت كن مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقا . ثمّ تتابع الأئمّة على ذكر هذا الدّليل مثل البيهقي في "الاعتقاد" واللالكائي في "السنّة" وغيرهم...
س : كيف نجمع بين أحاديث نزول الله للسّماء الدّنيا في ثلث اللّيل وبين كون الليل يكون نهارًا في مناطق أخرى من العالم ؟
ج : نزول الله عزّ وجلّ إلى السّماء الدّنيا لا يُقاس بنزول المخلوق من علو إلى سفل ، فإنّ النّزول وسائر ما أثبت سبحانه لنفسه من الصّفات والأفعال ممّا لا تستوعب العقول كيفيته بل مهما وقع ببالك فالله بخلاف ذلك ؛ ( ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ) ، وأيضًا فنزول المخلوق وسائر أفعاله هو ما يخضع لحدود المكان والزّمان ، أمّا الله عزّ وجلّ فهو خالق المكان والزّمان ؛ ( لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء ) ، وقد خلق الأزمنة والأمكنة وما يحصل بها من النُظم والأسباب التي تُلائم حاجات عباده وليعلموا ( عدد السّنين والحساب ) وهم الخاضعون لقوانينها دونه ، فالذي يستحيل نزوله في أوقات متفاوتة هو المخلوق لإحاطة الزّمان والمكان به ، وأمّا الخالق فإنّه بكلّ شيء محيط ونزوله خاصّ ليس كنزولهم ؛ ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ... ) ، وهو تعالى أعلى وأعلم .
س / ما هو الصّواب في تفسير استواء الله تعالى على العرش ؟
ج / استواء الله تعالى على العرش هو من المتشابهات التي قال تعالى : (( هُوَ الَذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأويله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ...)) [آل عمران 7 ] .
و(المحكم) و(المتشابه) في قوله: (( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ )) لكلّ منهما معنى عامّ وآخر خاصّ :
* فـ (المحكم) باعتبار عامٍّ ، معناه = المتقن ذو الكمال في نظمه ومبانيه ومعانيه ـ وبهذا وصف الله جميع القرءان فقال : (( يس والقرءان الحكيم )) ، (( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ )) .
ـ و(المتشابه) باعتبار عامّ أيضًا، معناه = المتناسق دون اختلاف بين معانيه، وهذه أيضا صفة لجميع القرءان كما قال تعالى: (( كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِي...))، (( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا )) .
فـالقرآن بهذا الاعتبار العامّ كلّه محكم وكلّه متشابه.
* وأمّا باعتبار آخر خاصّ فالقرآن منه محكم ، ومنه متشابه كما قال تعالى (( منه آيات محكمات هن أمّ الكتاب )) أي أكثره محكم (( وأخر متشابهات)) :
والمراد من الإحكام بالاعتبار الخاصّ هنا = جلاء المعنى دون التباس على أحد ممّن يعرف اللّغة والشّرع، وهذا صفة أكثر آيات القرآن لا جميعها، فالإحكام الخاصّ هو في مثل قوله تعالى : (( فاعلم أنّه لا إله إلّا الله )) ، وقوله: (( محمّد رسول الله )) ، وقوله في وجوب الصّلاة : (( وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة )) وفي إباحة البيع وتحريم الرّبا : (( وأحلّ الله البيع وحرّم الرّبا )) ونحو ذلك ممّا هو جليّ المعنى يشترك في العلم به كلّ أهل اللّغة والشّرع .
أمّا التّشابه بالاعتبار الخاصّ فالمراد به أنّ بعض الآيات تحتمل في فهمها معان وأنّ المعنى الصّواب منها ليس جليّا للجميع وإنّما يعرفه الرّاسخون في العلم ، كما قال النّبيّ ﷺ : " إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" ، فمثال هذا في الأحكام : البيوع المختلف في جوازها وتحريمها وكذا تفاصيل ما يدخل في الرّبا المحرّم ممّا لا يدخل، ومثاله في الأخبار :
قوله تعالى : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) : فهذا ممّا يُختلف في تفسيره:
ـ ففريق أوّل من أهل السنّة جمع بين الإثبات والنّفي فقال: الاستواء ههنا على ظاهره، فهو بمعنى العلوّ الحقيقيّ والارتفاع لكن ليس هو كعلوّ المخلوق وارتفاعه؛ فلا يلزم من إثباته إثبات ما قد يتوهمه العقل من الحركة والانتقال والمبارحة لمكان والحلول في مكان آخر مخلوق ... فإنّ ذلك هو صفة علو المخلوق وارتفاعه،وأمّا علوّ الخالق فليس بهذه الكيفيّة لأنّه تعالى (( ليس كمثله شيء ))، فالكيف في استوائه تعالى مجهول لا يقدر العقل على تصوّره، ولهذا قال الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ... ونحو ذلك قال شيخه ربيعة وغيرهما من الرّاسخين :
ـ " الاستواء غير مجهول " أي : ليس معناه خفيّا، إذ معناه العلوّ، فهو استواء حقيقيّ لائق بالله، وهو من صفات كماله وعظمته.
ـ و"الكيف غير معقول" أي : كُـنْـه هذه الصّفة في ذاتها لا يحيط بها العقل (فالكيفيّة مجهولة للجميع حتى الرّاسخون في العلم يجهلون كيف استوى على العرش، وهذا من عظمة الله أنّ العقول لا تطيق معرفة كنه صفاته تعالى ولا تقدر على استيعاب ذات الصّفة، ومهما وقع ببالك فالله بخلاف ذلك) .
فالمعلوم هو : المعاني الحقيقيّة ؛ وهي صفات الكمال، والمجهول هو : الكنه والكيف ونفس تلك الصّفات في الواقع ... فتكون مثل هذه الأخبار ـ على هذا القول ـ محكمة من وجه ومتشابهة من وجه؛ فهي من جهة المعنى الحقيقيّ محكمة لدى الرّاسخين لوضوح معناها عندهم، وهذا هو الوجه في قراءة الوصل في قوله تعالى في المتشابهات : (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم)) ، وهي من جهة الكنه والكيف متشابهة لدى الجميع إلّا الله، وهو وجه الوقف على قوله تعالى : (( وما يعلم تأويله إلا الله )) ...
وقيل : المتشابه في هذه الأخبار هو المعنى أصلًا، والقائلون بهذا فريقان :
ـ فريق استعصم بالتّوقّف والتّفويض وتعلّق لتقرير مذهبه بقراءة الوقف في : (( وما يعلم تأويله إلا الله))، فيكون تفسير آيات الاستواء على قولهم : لا يعلم معنى الاستواء إلّا الله تعالى، والرّاسخون في العلم يفوّضون ذلك المعنى؛ (( يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا )).
ورُدّ هذا القول بأنّه يُستبعد أن يُخاطب الله عباده بما لا يفهمون فإنّه تعالى قد أمر بتدبّر كلامه، والغاية من الكلام أصلًا هو الإفهام، فخطابه إيّاهم بما لا يُفهم عبث يتنزّه عنه، ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأنّ الأمر بالتّدبّر عامّ يقبل التّخصيص، وأمّا العبث فالقصد العامّ من المتشابهات على هذا هو الابتلاء بها ليُعلم مَن يفوّض أمر تفسيرها إلى الله ممّن يتّبعها ابتغاء تأويلها فيتكلّف تفسيرها تكلّفًا، ويتعصّب لقوله ابتغاء الفتنة والتّفريق بين الأمّة، فقصدُ الابتلاء بهذا قصدٌ صحيحٌ يدفع الإلزام بالعبث إذ محلّ العبث في الخطاب أن لا يوجد من ورائه قصدٌ صحيحٌ أصلًا، لا ما يوجد فيه قصدٌ عامّ معلوم وخاصّ مجهول، فإنّ هذا يكون كقول جماعة من الفريق الأوّل في الحروف المقطّعة أوائل السّور أنّ معناها العامّ هو الإعجاز من الربّ سبحانه وتعالى للعرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن فإنّه متألّف من تلك الحروف وغيرها ممّا هو من حروفهم التي يتكلّمون بها، وهم مع ذلك عاجزون أن يأتوا ولو بسورة من مثله،وأمّا المعنى الخاصّ الذي يُعلم فيه سبب ذكر هذه الحروف دون غيرها وسبب ترتيبها فيما بينهما على ذلك النّحو وسبب تفريقها على السّور ذلك التّفريق كذِكْر ( الم) في أوّل البقرة دون ( طسم) مثلا فكلّ ذلك مجهول لا يعلمه إلّا الله تعالى.
ـ وتعلّق فريق آخر بالقراءة التي فيها الوصل في: (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم ))، فصار تفسير الاستواء عندهم: الذي يعلم معنى الاستواء هو الله تعالى والرّاسخون في العلم، فإنّهم يعلمون المعنى المتشابه الذي تشتبه على غيرهم معرفتُه، لكنّه معنى مجازيّ راجع تفسيره إلى ما أثبتوه من الصّفات العقليّة التي منها ( العلوّ المعنويّ ) فيكون ذلك هو معنى ( الاستواء)، ويكون قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) كقوله: (( رفيعُ الدّرجات ذو العرش ))
فالرّفعة والعلوّ هي في الشّأن والدّرجات المعنويّة، وهي الظّهور الذي وصف تعالى به نفسه في قوله (( الظاهر والباطن )) ؛ فكما أنّ البُطنان هو قربُه تعالى الذي هو قربٌ معنويّ بالعلم والإحاطة ، كذا الظّهور هنا هو ظهور معنويّ ؛ وهو ظهور غلبة وقهر ومُلك، ولذلك فسّر كثير منهم ( الاستواء على العرش) بالاستيلاء على معنى أنّ ذكر الاستواء هنا هو لتشبيه الأمر المعنويّ بالأمر الحسّي ّالذي هو من شأن ملوك الأرض حسّا...
وقد رُدّ هذا التّفسير بأنّ الاستيلاء يقتضي المنازعة وعدم الملك قبل ذلك، وهذا باطل، ويدلّ على بطلانه أيضًا ورود حرف ( ثمّ) قبل ( استوى) فيقتضي أنّه صفة فعليّة أمّا العلوّ المعنويّ والقهر والملك فهي صفات ذاتيّة ثابة لله أزلا ...
وجواب هذا أنّ تفسيره بالاستيلاء لا يلزم منه منازعة ولا سبق بعدمِ ملكٍ كما لا يلزم القائلين بحمل الاستواء على حقيقته التي هي الارتفاع أنّه مسبوق بانخفاض قبل ذلك أو مقترن بحلول، وكذا حرف ( ثمّ) هو ممّا يأتي لمجرّد العطف دون إرادة التّرتيب الزّمنيّ : قال الرضيّ في "شرح الكافية" (4/390) :" وقد تجئ (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر، والتدرج في درج الارتقاء ، وذكر ما هو الأولى ، ثم الأولى ؛ من دون اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج ، ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله ، كما في قوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح ، فابتدأ بسيادته ، ثم بسيادة أبيه ، ثم بسيادة جده ، لأن سيادة نفسه أخص ، ثم سيادة الأب ، ثم سيادة الجد، وإن كانت سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه...ّ"
لكنّ النّظر يقتضي أنّ تفسير (الاستواء) بالاستيلاء في هذا الموضع هو قول ضعيف مرجوح لأنّ الحامل عليه هو فرارهم التّشبيه؛ فإنّهم قالوا : لو فُسّر بالعلوّ الحقيقيّ والارتفاع الذّاتيّ لاقتضى انتقالا إلى مكان وتحيّزا إلى جهة وحلولا فيها تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فذلك ممّا يُقطع ببطلانه عقلا ونقلا، فالتجؤوا لصرف المعنى عن ظاهره لوجود ذلك الإشكال، والجواب أنّ حملهم إيّاه على خلاف ظاهره يلزم منه إشكال مثله؛ لأنّ تفسيرهم (الاستواء) بالاستيلاء يقتضي ـ على قاعدتهم في التّصوّر ـ ما تقدّم من وجود منازعة على العرش قبل ذلك بينه وبين غيره من المخلوقين تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فإن قالوا هو استيلاء بلا منازعة قيل لهم : فما الإشكال أن يُقال هو استواء حقيقيّ بلا تحيّز !؟ فكما أنّ قولكم لا إشكال فيه كذا قول الفريق الأوّل لا إشكال فيه وكلاهما قول مُحتمل وسائغٌ ، ولأنّ الذي نفيتم به أصل المعنى هو تصوّرات باطلة في العقل فتكون صوارف باطلة إلى المجاز، ويبقى اللّفظ محتملا للقولين مع القول الثّاني بالتّفويض ...
والتّحقيق هو أنّ ( الاستواء ) يختلف معناه باختلاف القرائن والسّياق الذي يَرِد فيه، ومن ذلك أنّ فعله يكون في سياق لازمًا وفي سياق آخر متعدّيًا إلى مفعول، وهو في حال التّعدية قد يتعدّى بحرف ( إلى ) وقد يتعدّى بحرف ( على )؛ فممّا ورد فيه ( الاستواء ) لازمًا قوله تعالى : (( ولمّا بلغ أشُدَّهُ واسْتَوَى )) فهذا معناه : اكتمل، وقول النّبيّ ﷺ :"استووا" أي استقيموا واعتدلوا ، وممّا ورد فيه متعدّيًا بحرف ( إلى ) قوله تعالى : (( ثمّ استوى إلى السَّماء ))، فهذا الأقرب أن يكون بمعنى قصد، وممّا ورد فيه متعدّيًا بحرف ( على ) قوله تعالى : (( لتستووا على ظهوره )) وقوله : (( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك )) ... فمثل هذا معناه العلوّ، والرّاجح أنّه علوّ حقيقيّ على ما يليق بالله تعالى لأنّه أضيف للذّات, وهو إذا أضيف لله عزّ وجلّ لم يلزم من إثباته إثبات التحيّز والانتقال والمماسّة كما يكون ذلك في علوّ المخلوق لبطلان التّمثيل والتّكييف عقلا ونقلا ... وأمّا العلوّ المعنوي فإنّما يُثبت في المواضع التي يُضاف فيها إلى الصّفة أو إلى الذّات مع وجود ما يدلّ أنّ المقصود رجوعه إلى الصّفة كما في قول العرب : استوى الأمير على مملكته، عند دخول العباد في طاعته...
فهذا التّفصيل في تفسير (الاستواء) هو الرّاجح لكن مع سواغ الأقوال الثّلاثة لاحتمال اللّفظ لها ، والّذي لا يسوغ هو نفي معنى الاستواء والعلوّ أصلًا فهذا من الغلوّ في النّفي كقول المعطّلة الذين نفوا أنّه تعالى قد استوى العرش، وهؤلاء منهم من ينفي العلوّ أصلًا كقول الجهميّة النّافين لعموم صفات الله تعالى ولكونه في مكان أصلًا، وهذا خلاف قول طائفة من الأشعريّة أنّه : لا مكان له، وقصدوا بذلك نفي المكان المخلوق لا مطلق المكان، وإلّا لاقتضى نفي وجوده تعالى، وهم مثبتون لذاته وصفاته، ومن غلاة النّفي أيضًا طائفة من الفلاسفة والباطنيّة قالوا : لم يستو ِعلى العرش وإنّما مثلُ هذه الأخبار هي للتّخويف والتّرهيب لا أكثر! وهذا قول باطل قطعًا لأنّه يقتضي التّكذيب بأخبار الله، وكذا قول غلاة المثبتة من أهل التّجسيم الذين فسّروا الاستواء مع التّمثيل والتّكييف خلافًا لمن أثبت المعنى الحفيقيّ مع نفيهما إذ الصّحيح من النّفي هو خصوص نفي ما يستحيل على الله ، وهو الكيف والمِثل، لا أصل المعنى، فالغلاة في جميع الأحوال هم الذين اتّبعوا المتشابه الذي هو أوهام عقليّة استعملوها لردّ المحكم والخروج عن دائرة القطعيّات وما يحتمله اللّفظ ؛ ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الذين يجادلون فيه -وفي لفظ "في آيات الله"- فهم الذين عنى الله، فاحذروهم » وفي لفظ آخر « إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم » ، ومثال هذا ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق اللهُ الخلقَ ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله " ، فقوله ( آمنت بالله) هو من قول الرّاسخين: (( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ...)) ؛ فهذا هو التّفويض المأمور به جميع النّاس؛ أن يكفّوا عن الخوض فيما مقدّمته باطلة من أصلها في العقل، ولهذا جاء بعض ألفاظ الحديث السّابق : "فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" وكذا فيما لا سبيل للعقل إلى إدراكه من التّفاصيل، ولهذا جاء في الخبر: "تتفكروا في آلاء الله ـ أي في نعمه ـ ولا تفكروا في الله" أي في ذاته وكيفيّة صفاته على ما هي عليه فإنّ ذلك مجهول يقصر العقل عن إدراكه، ومن ذلك أيضًا حقائق اليوم الآخر على ماهي عليه؛ قال تعالى : ((فلا تعلم نفس ما أخفي لهم)) ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "، فالمعاني الحقيقية للحور والقصور والفاكهة ولحم الطّير والأنهار معلومة لكلّ من يفهم اللّغة، لكنّ كنْه المخبر عنه مغيّب عنّا ؛ومن ذلك أيضًا أنّ الله تعالى قد أخبر عن الملائكة والجنّ ، والذي نجهله في هذه المخلوقات إنّما هو الكيف، إذ لا نجهل أصل المعنى فهو معلوم وحقيقيّ، لا مجهول ولا مجازيّ، ومثل ذلك الرّاجح في تسبيح المخلوقات التي قال تعالى : (( وإن من شيء إلّا يسبّح بحمدهم ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) هو تسبيح حقيقي، وقيل: هو مجرّد الاستسلام والانقياد لأموامر الله الكونيّة كن فتكون، والرّاجح صحّة هذا لكن لا مانع أن يشمل المعنى أيضا تسبيحا حقيقيا كما يدلّ عليه سماع الصّحابة له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح البخاريّ" من حديث عبدالله بن مسعود أنه قال: "لقد كنا نسمع تسبيح الطعام ، وكذا في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن .
ويترجّح هذا التّفصيل من جهة جمعه لوجهي الوقف والوصل اللّذَين قرأ بكليهما السّلف في قوله تعالى : (( وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم))، فيكون الوقف على : (( وما يعلم تأويله إلا الله)) مناسبًا لجهل القارئ بكنه ما هو مغيّب عنه وكيفيّته في ذاته، والوصل مناسبًا لعلم الرّاسخين بأصل معاني ذلك، مع جمعه أيضًا لمعنيي ( التأويل) في لسان العرب فإنّه يُطلق ويُراد به :
إمّا 1 ـ تفسير المعنى، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف: (( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ )) [يوسف: 36] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وإمّا 2 ـ حقيقة ما هو عليه في الواقع ومن ذلك أن يتحقّق إن كان خبرًا كما في قوله تعالى: (( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ )) [الأعراف: 53] أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء .منه أيضًا قول يوسف عليه السّلام: (( هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً )) [يوسف: 100] أو يُمتثل له إن كان أمرًا كما في قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن؛ أي: يمتثل ما أمره الله به في قوله: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً )) [النصر: 1-3].
ولذلك يكون الرّاجح في قوله تعالى: (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا )) [آل عمران 7 ] التّفصيل في معنى ( التّأويل) : فعلى قراءة الوقف عند قوله: (( إِلَّا اللَّهُ ))؛ يكون معنى التأويل المعنى الثاني لأنّ حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها أحدٌ إلا الله عز وجل ، وهي الوجه المتشابه في هذه الأخبار ، وعلى قراءة الوصل يكون معنى التأويل المعنى الأول وهو التفسير ، لأن تفسيره يعلمه الله والرّاسخون في العلم فيعلمون معنى الاستواء أنه العلو ، لكنهم يجهلون هم وغيرهم كيفيته وحقيقته التي هو عليها ... فهذا هو الرّاحج، ولهذا مثّل ابن القيم رحمه الله في"المدارج" (2/403) مراتب اليقين: "بمن أخبرك أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه، ثم أراك إياه فازددت يقيناً، ثم ذقت منه.
فالأول: علم اليقين.
والثاني: عين اليقين.
والثالث: حق اليقين.
قال : فعلمُنا الآن بالجنة والنار: علم يقين.
فإذا أزلفت الجنة في الموقف (موقف الحشر) للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين.
فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين"انتهى.
والله تعالى أعلم.
س / ما مذهب السّلف في إثبات الصّفات الخبريّة وتأويلها ؟
ج / جنس إثبات معاني الصّفات الخبريّة هو قول السّلف ونقل فيه جمعٌ الإجماع ، وتحقيق مذهبهم في التفصيل هو الدوران مع السّياق والقرائن لتحديد المراد فيكون معنى اليد في : ( لما خلقت بيديّ ) = صفة كمال على ما يليق بالله ، وفي : ( لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله ) = مؤوّلة ، وهكذا ...
س / ما هو معنى تقرّب الرّبّ من عبده في قوله تعالى في الحديث القدسيّ : "إذا تقرّب إلي عبدي شبرا تقربت منه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقرّبت منه باعا " ؟
ج / تقرّب الله تعالى ههنا تقرّب بالقبول والإثابة وسرعة الجزاء، وقرينة ذلك كون السّياق سياق مقابلة كما في قوله تعالى : (( ويمكرون ويمكر الله )) و (( يخادعون الله وهو خادعهم )) ونحو ذلك فإنّ المقصود = فعلٌ من قبيل فعلهم على وجه الجزاء عليه فلا يكون ذلك في ذلك الجزاء ظلمٌ ولا يكون فيه ههنا هضم؛ إذ معلوم أنّ فعل العبد هنا هو تقرّبه من ربّه بالطّاعة والعمل ولا جزاء لذلك غير الإثابة والقبول، فلا يقتضي معنى الحديث حقيقة مشي ولا هرولة إلّا أن تكون في نوع من الأعمال كما في قول إبراهيم : (( إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين )) وقول موسى : (( وعجلت إليك ربّ لترضى )) ، فهذا تقرّب خاصّ ولهذا أثبت طائفة ، كابن تيمية ـ أنّ تقرّب الرّب ههنا خاصّ أيضًا وليس هو عموم القبول والإثابة بل تقرّب حقيقيّ يليق به مع القطع بتنزيه الرّبّ عن المشي المعهود والانتقال، وهذا كقول هؤلاء في نزول الرّبّ إلى السّماء الدّنيا أنّه حقيقيّ مع القطع بتنزيه الرّبّ فيه عن الحركة والانتقال المعهود، فإنّ مقصودهم أنّ معنى النّزول زائد على قدر تنزّل ملائكته ورحمته ، فكذا هنا جعلوا تقرّب الرّبّ معنًى زائدًا عل قدر تقرّب القبول والإثابة، والّذي يترجّح لي هو القول الأوّل أعني أنّ التّقرّب هنا هو بمعنى القبول والإثابة فقط بدليل الفعل المقابل وهو تقرّب العبد، فإنّ من أفعال الطّاعة ما ليس فيه حقيقة مشي ولا انتقال، وظاهر هذه أيضًا دخولها في معنى الحديث فيكون تقرّب الله المقابل لها عامّا أيضًا، والأعمّ هو معنى القبول والإثابة، ويقوّيه أنّ ذلك هو المعهود من خطاب الشارع في مثل هذا كما في حديث أبي هريرة الآخر مرفوعًاـ وهو في "الصّحيح" أيضًا ـ : ( ... ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) فإنّه معلوم قطعًا أنّ المقصود النّصر والتّأييد ونحو ذلك من أفعال الجزاء لا حقيقة كونه السّمع والبصر واليد والرّجل ونحو ذلك ، والله تعالى أعلم.
س / ما الفرق بين إثبات اليد على معنى أنّها صفة كمال وتأويلها بالإنعام أو القدرة وهما أيضًا صفتا كمال ؟
ج / المُثبت للمعنى الحقيقي للصّفات الخبريّة بلا تمثيل ولا تكييف في مثل صفة ( اليد ) يجعلها صفة كمال لله تعالى ، فليس معناها عنده القدرة أو النّعمة كما يدّعيه المؤوّل لها ، كما ليس معناها عند المؤوّل هو المعنى الحقيقي الذي يدّعيه المثبت؛ لأنّ حقيقة ( اليد ) عنده هو كونها جارحة ، والله تعالى منزّه عن الجوارح وعن جميع صفات الحوادث .
وجواب المُثبت عن ذلك : بأنّها إنّما تكون جارحة إذا نُسبت للمخلوق ، أمّا كلامنا الآن فعن الخالق .
وعليه فالفرق بين قول المُثبت لليد بلا تكييف ولا تمثيل وبين قول المؤوّل لها ، إذ كلاهما يُثبت أنّها صفة لله وينفي كونها جارحة .
هو : أنّ المؤوّل لا يزيد في الإثبات على أنّها هي ذاتها صفة القدرة أو النّعمة ، والمُثبت يجعلها صفة أخرى غيرهما .
س / هل يسوغ خلاف من أوّل الصّفات الخبريّة أو نفى العذر بالجهل في الشّرك الأكبر أم أنّ القول بذلك بدعة ؟
ج / أمّا القول بتأويل الصّفات الخبريّة فهو سائغٌ ، وأمّا القول بنفي العذر بالجهل في تفاصيل الشّرك الأكبر ؛ فقول شاذّ مبتدع، وبيان ذلك متوقّف على بيان الضّابط الأصوليّ في التّفريق بين الخلاف السّائغ المحتمل، وبين الخلاف غير السّائغ الّذي هو ابتداع في الدّين، وذلك :
أنّ من خلاف العلماء ما تكون الأقوال فيه مبنيّة على أدلّة ظنيّة فيكون قول كلّ منهم اجتهادًا لا يُجزم بمصادفته للحقّ الّذي عند الله ولا بمجانبته له، وهذا كما قال النّبيّ لسعد بن معاذ : " أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" ...
فما يكون هكذا فهو اجتهاد صحيح، يجوز تقليده ولا ينتقض قضاء القاضي به لأنّ الاجتهاد لا ينتقض بمثله.
وأمّا الأقوال الباطلة المبتدعة الّتي لا يجوز تقليدها ، وينتقض قضاء القاضي إذا قضى بها فهي الّتي تُبنى على اجتهاد يُجزم ببطلانه إمّا على وجه القطع أو على وجه يقارب القطع، وسبيل معرفتها أن تُخالف أحد أربعة أصول :
1 ـ النصّ القطعيّ في ثبوته ودلالته .
أو :
2 ـ القياس الجليّ.
أو :
3 ـ القاعدة الكلّيّة لكون دلالتهما قطعيّة أيضًا.
أو :
4 ـ الإجماع المتحقّق الّذي يُجزم بوقوعه إمّا على وجه القطع أو على وجه يقارب القطع، وأمّا الإجماع الّذي لا يبلغ ذلك فهو ظنيّ فيكون صالحًا في الاحتجاج به أو التّرجيح لكنّه لا يكون ضابطًا في معرفة السّواغ؛ فإنّ قصارى الأمر أن يكون حجّة وهي تكون ظنّيّة فيكون القول المبنيّ عليها اجتهادًا وهو لا يُجزم به ولا ينقض ما يخالفه من قول اجتهاديّ آخر، ولهذا ينازع المخالف في وجود ذلك الإجماع بل قد يدّعي أنّ قوله هو الذّي عليه الإجماع كما يتنازع ذلك أمثال الأشعريّة والحنبليّة في القول بتأويل الصّفات ونحو ذلك، وقد يعلم الفقيه المطّلع أنّ الإجماع مع إحدى الطّائفتين لكنّه لا يجزم بذلك جزمًا، ولذلك كان التّحقيق أنّ القولين في ذلك سائغان، بخلاف الأقوال الّتي تناقض الإجماع المتحقّق مثل الإجماع القطعيّ وما يقاربه من الإجماع الظنّيّ الّذي يُجزم به، كالإجماع القديم الّي هو إجماع الصّحابة، وبيان هذا أنّ :
إثبات وقوع الإجماع أمرٌ شاقّ والجزم به مجازفة في الغالب لتعذّر الاستقصاء فيبقى احتمال وجود المخالف قائمًا، ولهذا قال أحمد : "من ادّعى الإجماع فقد كذب وما يدريك لعلهم اختلفوا؟ "، فكان الأصل هو عدم الجزم بالإجماع حتّى يتحقّق، وهو أكثر ما يتحقّق وينضبط في طبقة الصّحابة حتّى ذهب بعضهم إلى حجيّته دون إجماع من بعدهم.
قال الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 383): "جعل الأصفهاني موضع الخلاف في غير إجماع الصحابة, وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع, لا إجماع الصحابة؛ حيث كان المجمعون -وهم العلماء- في قلة, أما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء, فلا مطمع للعلم به. قال: وهو اختيار أحمد، مع قرب عهده به من الصحابة, وقوة حفظه, وشدة اطلاعه على الأمور النقلية. قال : والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبا في الكتب ، ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم ، أو بنقل أهل التواتر إلينا ، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة ، وأما بعدهم فلا ". انتهى
والصّواب أنّ الحجّة تقوم بإجماع مَن بعد الصّحابة أيضًا لكنّها تكون في الأكثر حجّة ظنيّة يسوغ خلافها لحجّة مثلها أو أقوى ؛ قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى" (19/ 267): "والإجماع نوعان قطعي فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعي على خلاف النص وأما الظني فهو الإجماع الإقرارى والاستقرائي بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره فهذا الإجماع وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها فانه لا يجزم بانتفاء المخالف وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية والظني لا يدفع به النص المعلوم لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا والمصيب في نفس الأمر واحد".
فعُلم بهذا أنّ أكثر ما يمكن الجزم بوقوعه ومن ثَمّ الجزم بخطأ مخالفه هو إجماع الصّحابة لما معه من يُسر العلم به والاطّلاع عليه بالنّسبة لغيره من إجماع يُدّعى قي طبقة مَن بعدهم مع فضلهم هم على غيرهم في الفهم والدّيانة وكونهم هم المعنيّون بأهل الإجماع في النّصوص الدّالّة على حجّيّته بالأصالة كقوله تعالى : (( ويتّبع غير سبيل المؤمنين )) وقوله : (( وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا )) ... ونحو ذلك.
ثمّ معلومٌ ههنا أنّ الصّحابة قد سكتوا عن تأويل الصّفات الخبريّة كما سكتوا عن الإثبات، وذلك يجعل القولين بالتّأويل وعدمه محتملين لأنّ سكوتهم ليس بأدلّ على أحد القولين من الآخر فلا يكون دليلا لأحد منهما فضلًا أن يُدّعى أنّه إجماع على أحد القولين ، ولو سُلّم بكونه دالاّ على أحدهما لتفسير بعضهم بعض الألفاظ بما يوافق أحد القولين فغايته أن يكون = إجماعًا سكوتيّا، وهو من أضعف أنواع الإجماع لاحتمال وجود موانع من الكلام مع الاختلاف الشّديد في حجّيّته فكيف يُستعمل مثله مانعًا من سواغ الخلاف مع عدم مخالفة القولين لسائر الأصول القطعيّة ؟!!
وأمّا القول بنفي العذر في الشّرك الأكبر فهو فرع من القول بمطلق التّحسين والتّقبيح العقليين فيكون بدعة ، لأنّه مخالفة في قاعدة كلّيّة تدخل تحتها جزئيّات كثيرة ، فإنّه يتفرّع عن قاعدة التّحسين والتّقبيح العقليين أمثال : القول بعدم صحّة إسلام المقلّد والقول بنفي العذر في الشّرك الأكبر ، والقول بعدم التّوقيف في الأسماء الحسنى، والقول بصحة إسلام الصّبيّ المميّز ونحو ذلك ... ومن هذه الفروع ما يسوغ فيه الخلاف كالثّالث والرّابع بحلاف الأوّلين لأنّه يدخل تحت كلّ منهما هما أيضًا جزئيّات كثيرة مع مناقضتهما قاعدة كلّيّة أخرى كالقول بعدم صحّة إسلام المقلّد فإنّه يناقض قاعدة قبول إسلام من نطق بالشّهادتين والتزم شرائع الإسلام ونحو ذلك كما يناقضها القول نفي العذر بالجهل في تفاصيل معنى الشّهادتين، مع مخالفة هذين القولين للإجماع القديم المعروف من تصرّفات الصّحابة بعموم استصحابهم أصل الإسلام ومطلق استعمالهم للشّروط والموانع ـ ومنها الجهل ـ قبل الحكم بالردّة.
قال الشاطبي في " الاعتصام" (2 / 200- 202) : هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية، لأن الكليات تقتضي عددا من الجزئيات غير قليل، وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب، واعتُبر ذلك بمسألة التحسين العقلي، فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال، ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا، وأما الجزئي: فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين، حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون ـ ولكن إذا قرب موقع الزلة لم يحصل بسببها تفرق في الغالب ولا هدم للدين، بخلاف الكليات، فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو في الدين إذا كان اتباعا مخلا بالواضحات وهي أم الكتاب، وكذلك عدم تفهم القرآن موقع في الإخلال بكلياته وجزئياته. اهـ.
س / هل يسوغ خلاف الأشعريّة في تأويلهم للصّفات الخبريّة ؟
ج : الأقوال السّائغة في تفسير النّصوص المتشابهة هي الأقوال الّتي يُحتمل أنّها معانيها، وتُحتمل هي لقائلها فيسوغ خلافه ؛ وهي الوجوه التي يحتملها اللّفظ لغةً ما لم تُخالف قاطعًا من الأدلّة أو ما هو كالقاطع، لأنّها تصير بمخالفتها للقطعيّات وما يُقاربها غير محتملة شرعًا، ومن ذلك أن يُخرج في فهمها عن إجماع المسلمين وأوّلهم الصّحابة الّذين هم أوّل الدّاخلين في معنى الرّاسخين في العلم الّذين مدح الله تعاملهم مع تلك المتشابهات في قوله تعالى : (( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا )) ، ومعلومٌ أنّ الصّحابة قد سكتوا عن تفسير النّصوص المتشابهة ، فصار في دائرة سواغ الخلاف كلّ من يفهم فهمًا يُحتمل أنّه هو سبب سكوتهم، وفي خصوص الرّسوخ من يفهم الفهم الصّحيح الذي هو الحقّ الواحد في نفس الأمر ( في علم الله ) ، وذلك أنّ الحقّ واحدٌ في نفس الأمر ، لكنّ المجتهدين يحاولون إصابته فيُؤجرون أجرًا يُزاد لمن يصيبه منهم عليه أجرٌ معه فيكون له أجران، فذلك هو الرّاسخ في حقيقة الأمر ، لكنّه يتعذّر عليهم (في علمهم) القطع بتعيين ذلك الرّاسخ لتعذّر معرفة الّذين أصابوا الحقّ منهم من هو؟ فيكون جميعهم في ظاهر الأمر ـ الذي يُحكم به في الشّريعة ـ قائلون علمًا محكومًا بصحّته لصحّة احتمال أن يكون هو الصّواب في باطن الأمر الّذي هو مراد الله، وهذا مبنيّ في خاصّة هذه المسألة ـ كما تقدّم ـ على معرفة سبب سكوت الصّحابة ومن يُقطع أنّه من الرّاسخين مثلهم، وهم :
ـ يُحتمل أنّهم سكتُوا لعلمهم بأنّ اليد والعين والاستواء ونحوها هي صفات كمال للرّبّ والكيف فيها مجهول ...
ـ ويُحتمل أنّهم سكتُوا لعلمهم بأنّ تلك الألفاظ هي من أساليب العرب التي لا يُراد ظاهرها ...
ـ ويُحتمل أنّهم سكتُوا لعلمهم باستئثار الله بعلم حقائق معانيها دون غيره ...
فكلّ ذلك محتملٌ ، وموجودٌ من كلام الأئمّة بعد الصّحابة ما يوافق كلّ احتمال منه ...
ـ فمن الأوّل : قول مالك في قوله تعالى : (( استوى على العرش )) : « الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول»، وقول ابن الماجشون وأحمد : « إنا لا نعلمُ كيفيةَ ما أخبرَ اللهُ عن نفسهِ وإن كُنا نعلم تفسيرَه ومعناه ...
ـ ومن الثّاني : قول أحمد في قوله تعالى : (( وجاء ربّك )) : « جاء ثوابه»، وفي رواية : « قدرته» ، وقول الشافعيّ في قوله تعالى : (( فثَمّ وجه الله )) : فثمّ الوجه الذي وجّهكم الله إليه ، وقول البخاريّ في قوله تعالى : (( كلّ شيء هالك إلّا وجهه )) : « إلّا مُلكه» ... وغير ذلك كثير ثابت ...
ـ ومن الثّالث : قول الشعبي وابن المسيب والثوري : «نؤمن بها ونقر كما نصّتْ، ولا نعيّن تفسيرها...
وأمّا الّذي لا يُحتمل ولا وجه له فهو قول غلاة المُثبتة من المجسّمة القائلين بحمل مثل تلك الألفاظ على مطلق ظاهرها ؛ فإنّهم يقولون أنّ اليد والعين والسّاق ونحو ذلك هي جوارح كالتي لدى المخلوق، وهذا كفرٌ بواح لأنّه يُخالف المقطوع به نقلا من كونه تعالى (( ليس كمثله شيء )) وعقلا من أنّ التّمثيل بالمخلوق نقصٌ، فيتنزّه عنه الخالق في بدائه العقول.
وكذا لا يُحتمل قول غلاة النّفي من الجهميّة والمعتزلة ونحوهم ؛ فإنّهم قائلون بمطلق نفي الصّفات الخبريّة والعقليّة معًا ،وهذا أيضًا كفرٌ صراح لوجود القطع بثبوت العقليّة كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسّمع والبصر والكلام ونحوها ... فإنّ العقل لا يَتصوّر ربّا إلّا ذا كمال مطلق، والكمال يقتضي في هذه إثباتها مع توقّفه في الخبريّة كاليد والوجه والاستواء قبل ورود النّصّ بها، ثمّ هو بعد ورود النّصّ يتردّد في فهمها بالنّظر إلى وجود ما يفهمه من النّقص في الإثبات أو عدمه فتكون فيه محتملَةً لأوجهٍ من المعاني بخلاف النّصّ في العقليّة، فإنّ العقليّة واجبة في العقل لا بدّ من إثباتها ، وهذه ممكنة غير واجبة وغير مستحيلة، والتّحقيق في هذا :
أنّ الذي يستحيل على الربّ من النّقص هو بعض الوجوه في إثباتها لا أصل الإثبات؛ فإنّ إثبات أصل المعنى لا يناقض كمال الرّبّ إذا قيل: هو مستوٍ على عرشه أو له يد أو وجه أو عين ونحو ذلك... إلّا مع فهم مستلزم للنّقص كالفهم الذّي يكون معه التّمثيل والتّكييف فيكون هو الباطل لاقتضائه النّقص الّذي يتنزّه عنه الرّبّ في بديهيّات العقل ، فدلّ أنّ الإثبات على النّحو الّذي يُنفى فيه الكيف والتّمثيل ممكنٌ، فساغ بذلك إثبات الخبريّة؛ كصفة الاستواء لله تعالى إذا أُثبت لا على معنى الحلول في مكان مخلوق ولا على أنّه انتقال مثل انتقال المخلوق بل على أنّه صفة كمال للخالق لا يدرك العقل فيها الكيف، وقلُ مثل ذلك في صفات اليد والوجه والعين ونحوها ؛ أنّه يسوغ إثباتها لا على أنّها جوارح كما في إثباتها للمخلوق، بل على أنّها صفات كمال للخالق لا يُدرِك العقل فيها كيفًا ...
لكن الرّاجح ـ بعد معرفة سواغ القول بإثبات أصل المعنى لإمكان ثبوته في نفس الأمر الذي عُرف باحتمال اللّفظ لذلك ـ أنّه لا يُصار إلى ترجيح ذلك الإثبات أو عدمه إلّا بحسب القرائن المحتفّة باللّفظ ؛ فيترجّح الإثبات في مواضعه التي يقتضيه فيها السّياق والقرائن دون المواضع التي يقتضي فيها السّياق والقرائن عدم الحمل على الظّاهر ...
ومثال هذا : أن يُرجّح في قوله تعالى : (( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )) أنّ معنى (اليد) لله : صفة كمال بلا تكييف ولا تمثيل، إذ لو قيل أنّها بمعنى القدرة أو النّعمة لكان إبليس قد اعترض قائلًا : "وأنا أيضا خلقتني بقدرتك أو بنعمتك " , لكنّه عدل عن ذلك الجواب إلى غيره فقالَ : (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )) فعلمنا أنّ الله خلق آدم بيديه حقيقةً, وهذا مع بطلان ما قد يتوهّمه العقل في ذلك من المماسّة لبطلان التّكييف والتّمثيل كما تقدّم.
ومثاله : أن يُرجّح في قوله تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعامًا )) أنّ (الأيدي) ههنا هي بمعنى القدرة والنّعمة ، أمّا القدرة فإنّ هذا السّياق كسياق حديث النواس بن سمعان في خروج يأجوج ، ومأجوج : " فيوحي إلى عيسى أني قد بعثت عبادا لا يَدَان لأحد بقتالهم " ، وأمّا النّعمة فكما في قولهم ( زيدٌ له عَلَيّ يَدُ ) أو ( له عليّ يد طولى ) ، وكذا في قوله صلّى الله عليه وسلم لنسائه : ( أسرعكنّ لحوقا بي أطولكنّ يدًا ) فكنّ يتطاولن أيّهنّ أطول يدًا , فكانت زينب أطول يدا لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق ... فمثل هذا من أساليب العرب لكن ليس في شيء منه ما يقتضي بطلان الإثبات في الموضع الأوّل.
ومثاله : أن يُرجّح في تفسير فوقية الله في قوله تعالى : (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ )) أنّها فوقية حقيقيّة معناها أنّه تعالى فوقهم بذاته أيضًا فيُثبت له فوقيّة ذات مخالفة لفوقيّة الحوادث وما تقتضيه من النّقص، وعند الأشعرية هي فوقية معنوية ومعناها القهر كما في قول فرعون لقومه : (( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ )) ، لكنّ التّحقيق أنّ ذلك يكون معنى الفوقيّة إذا نُسبت للقهر كما في قوله تعالى : (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )) فتكون فوقيّة قهرٍ لتقييدها بالقهر . وكذا إذا نُسبت للعلم كما في قوله تعالى : (( وفوق كل ذي علم عليم )) فتكون فوقيّة علم لتقييدها بالعلم ، وهكذا كلّما نسبت الفوقيّة لأمر معنويّ فهي معنويّة, وإن نسبت لذات الموصوف بها فهي ذاتيّة ، هذا هو التّحقيق الرّاجح الذي أرى أنّ القائلين به هم أهل التّحقيق والرّسوخ ما لم يقطعوا بتخطئة المخالف إلّا الذي ينفي أصل وصف الله بالعلوّ ولو كان معنويًّا كما يفعل أهل التّعطيل الحقيقيّ من الجهميّة والمعتزلة ، فإنّهم نفوا صفات الله جميعا بما فيها العقليّة التي يقطع العقل باتّصافه تعالى بها ، وهم أصل نفيهم قائمٌ على توهّمهم أن إثباتها يقتضي تعدّد القدماء، وأجيبوا على ذلك بأنّ التّعدّد هو للصّفات في الذّهن لا لنفس الموصوف في الخارج ، فحقيقة اتّصاف المتّصف بصفات كثيرة لا تجعله هو متعدّدا وإلّا فما من موجود إلا له صفات تقوم به، وهذا مبنيٌّ أيضًا على معرفة الصّواب في مسألة الفرق بين الاسم والمُسمّى ومسألة الحدوث والقِدم ، والأشعريّة في ذلك رادّون على شبه الجهميّة والمعتزلة فكانوا من عموم المثبتة، ولذلك أثبتوا ههنا صفة العلوّ أيضًا ...
* لكن أشعريّة العصر كسلفيّة العصر يلعن بعضهم بعضًا ويبدّعون ويُكفّرون من غير أن يكون قول واحد من الفريقين هو القول الفصل الذي يُقطع بصوابه وضلال الآخرِين، فإنّ أصل أقوالهم سائغ كما تقدّم ، وإنّما الّذي لا يسوغ هو اختيار قول محتمل مع العصبيّة التي أوّل من أنشأ أصلها وأوقد نارها بين الطّائفتين هو ابن القشيري في فتنته المشهورة التي تفرّق بسببها الحنبليّة والأشعريّة، وقد كانوا قبل ذلك فريقًا واحدًا يكوّن مع الماتريديّة أهل السنّة المثبتين لصفات الله تعالى ، ولذا ذكر السَّفَّاريني رحمه الله وغيره أنّ أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف ؛ قال: "هم أهل الأثر والأشاعرة والماتريدية " ، والله تعالى أعلم.
س / هل من الأئمّة من ذكر أنّ الأثريّة والأشعريّة كلاهما من أهل السنّة ؟
ج / نعم ، ومن هؤلاء :
1 ـ الإمام السفاريني الحنبلي صاحب العقيدة السفاريينية " قال في شرحها "لوامع الأنوار " ( 1/73) : "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل. والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري. والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي " ! وقال في ص 1/76 : ( قال بعض العلماء : هم - يعني الفرقة الناجية - أهل الحديث يعني الأثرية والأشعرية والماتريدية ) اهـ.
2 ـ الإمام عبد الباقي المواهبي الحنبلي في كتاب "العين والأثر" ص 52: ( طوائف أهل السنة ثلاثة : أشاعرة وحنابلة وماتريدية بدليل عطف العلماء الحنابلة على الأشاعرة في كثير من الكتب الكلامية وجميع كتب الحنابلة !!! ) اهـ.
3 ـ الإمام الحافظ شمس الدّين الذّهبيّ : قال في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أبي نعيم الأصبهاني الأشعري 17/ 459 : ( وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقيل وقال وصداع طويل فقام إليه [ أي إلى أبي نعيم ] أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد الرجل يقتل . قلت [ أي الذّهبيّ ] : ما هؤلاء بأصحاب الحديث بل فجرة جهلة أبعد الله شرهم ) اهـ
4 ـ الحافظ أبو القاسم ابن عساكر : قال في كتابه تبيين كذب المفتري ص 163: ( ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على ممر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم ومن حقق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القشيري ) اهـ.
5 ـ شيخ الإسلام ابن تيمية : قال في مجموع الفتاوى 6/ 53: ( و الأشعرية فيما يثبتونه من السنة فرع على الحنبلية كما أن متكلمة الحنبلية فيما يحتجون به من القياس العقلي فرع عليهم وإنما وقعت الفرقة بسبب فتنة القشيرى ) اهـ.
وقال في مجموع الفتاوى أيضًا 4/17: ( قال أبو القاسم بن عساكر : ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة ابن القشيري ) اهـ.
وقال في 3/227 : ( والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة ) اهـ.
وفي 3/229 : ( ولما أظهرت كلام الأشعرى ورآه الحنبلية قالوا هذا خير من كلام الشيخ الموفق وفرح المسلمون باتفاق الكلمة وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة ) اهـ.
وفي 3/269 : ( ولهذا اصطلحت الحنبلية والأشعرية واتفق الناس كلهم ولما رأى الحنبلية كلام أبي الحسن الأشعري قالوا هذا خير من كلام الشيخ الموفق وزال ما كان في القلوب من الأضغان وصار الفقهاء من الشافعية وغيرهم يقولون الحمد لله على اتفاق كلمة المسلمين ) اهـ.
6 ـ الإمام ابن الوزير اليماني: في العواصم والقواصم 3 /331 : ( مذهب أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة الحديث وهم طائفتان: الطائفة الأولى: أهل الحديث والأثر وأتباع السنن والسلف الذين ينهون عن الخوض في علم الكلام ... ثم قال في 4/118: الطائفة الثانية : أهل النظر في علم الكلام والمنطق والمعقولات وهم فرقتان: أحدهما : الأشعرية ... . والفرقة الثانية من المتكلمين منهم : الأثرية كابن تيمية وأصحابه فهؤلاء من أهل الحديث لا يخالفونهم إلا في استحسان الخوض في الكلام وفي التجاسر على بعض العبارات وفيما تفرد به من الخوض في الدقائق الخفيات والمحدثون ينكرون ذلك عليهم لأنه ربما أدى ذلك إلى بدعة أو قدح في الدين ) اهـ
س / قد كان الأشاعرة والحنابلة معارك عبر سنوات ، أفلم يعلم أحد منهم أنّ ما بينهم في الأكثر غير خلافات لفظية ؟
ج / بلى قد علم ذلك جماعة من المحققين منهم؛ وهؤلاء صنفان ؛ صنف أوّل : أنكر على المخالف مع ذلك من باب سد ذرائع الابتداع لأن الابتداع في الألفاظ ذريعة للابتداع في المعاني ومن هؤلاء ابن تيمية ، وصنف ثان : لم ينكر، ومن هؤلاء الأسفراييني.